يحملني شريط الذّكريات إلى جزيرة سريلانكا أثناء تغطية الحرب الأهليّة بين النّمور التّاميل ذوي الأصول الهنديّة، حيث كانت الحرب على أشدّها في مقاطعة جافنا الشّمالية الشّرقية من الجزيرة ذات الأغلبيّة التّاميليّة، والتي كان النّمور التّاميل يطالبون بانفصالها عن الجزيرة.
وأثناء عودتي إلى مدينة كولومبو العاصمة، كنت في فندقٍ فاخر يطلّ على شاطئ البحر الجميل، وكانت الأمواج تضرب بالشّواطئ الخالية من النّاس. كانت أصوات الطّيور تعكّر رهبة السكون، ويتراءى لك أشباحٌ لأناسٍ تطوف على السّواحل بين الأحجار والأصداف المرميّة على الشّاطئ. كنتُ أحتسي فنجان القهوة وأنا أتخيّل كم كانت هذه الشّواطئ قادرةً على استيعاب أعدادٍ هائلةٍ من السّيّاح الأجانب، وكم كانت الحياة تدبّ بها من كل جانبٍ، وأصوات الباعة والأطفال على مدار السّاعة ورائحة الطّعام والسّمك المشويّ تفوح من المحلّات والعربات الصّغيرة المنتشرة بالقرب من الشّواطئ. كنت أسمع صدى أصوات الباعة وضحكات الأطفال وصراخهم، وتخيّلت لوحةً جميلةً على هذه الجزيرة التي تعدّ مرتعاً للسّيّاح على الرّغم من الكوارث الطّبيعيّة، والحرب الأهليّة، وهرب السّيّاح عن الشّواطئ بسبب أعمال العنف، ولم تعد تسمع سوى أصوات الصّيادين وأطفالهم، فلم يعد هناك من يشتري صورةً تذكاريّةً، ولم يعد هناك من يلتقط الصّور ويساعدك في اختيار الموقع المناسب حتّى ولو لم تقبل أن تتصوّر بعدسته. غادر البائعون الجوّالون الشّواطئ، فلا زبائن ولا كسب لقمة العيش. انسكبت أشعّة الشّمس الذّهبيّة على مياه الشّاطئ، وشعرت برغبةٍ في النّزول من غرفة الفندق للمشي على الشّاطئ، وطلبتُ من مرافقي المصوّر أن ينزل، هو الآخر، للمشي هناك، وقد هبّت الحياة بي من مراقدها من جديدٍ بعد أن لامست وجهي الشّاحب نسمةٌ خفيّةٌ من البحر، وتمايلتُ وأنا أمشي على الرّمال النّاعمة؛ وكانت أصوات طيور البحر أكثر قرباً، وخيالي من ورائي كأنّه رفات ميتٍ يتبعه الأحياء. مشيت طويلاً على الشّاطئ أبحث عن شخصٍ أحادثه، فلم أجد سوى جمعٌ لبعض الصّيّادين من سكان المناطق الفقيرة على مقربةٍ من السّواحل. لفت انتباهي رجلٌ يحمل بيديه طائرةً من الورق، وعلمت أنه بائع يقوم بصنع هذه الطّائرات الورقيّة مع عائلته الفقيرة التي تقطن بالقرب من الشّاطئ، وكانت مصدر رزقه الوحيد.
كنت أتبادل الحديث مع بريماداسا بائع الطّائرات الورقيّة وهو يشرح لي عن معاناته وانعدام السّياحة وصعوبة مواجهة الحياة وكسب لقمة العيش، وقرّرتُ أن أجري تقريراً مصوّراً عنه، وطلبتُ من المصوّر النّزول فوراً مع المعدّات وتجولت معه حتّى وصلنا إلى بائع شاي، ووصل المصوّر وأنا أحتسي كأس شايٍ سريلانكيٍّ ساخنٍ، وقمنا بزيارة منزل البائع بريماداسا في الأحياء الفقيرة، وكان ابنه وزوجته يلصقان طائرةً ورقيّةً، بينما ينام ابنه الصّغير في الخيمة داخل هيكل منزلٍ ويجهل قسوة الحياة على كاهل ذويه. اشتريتُ طائرةً ورقيّةً وطلبتُ من بريماداسا التجوّل معنا على الشّاطئ وأن يساعدنا في تحليق طائرة الورق. كنّا نتجوّل وحيدَين، وطلبتُ منه التجوّل وإطلاق الطّائرة في الهواء والمصوّر يسجّل الفيديو. أجريت معه لقاءً تلفزيونيّاً تحدّث فيه عن معاناته وصعوبة إعانة أسرته الفقيرة . كذلك أجريت لقاءً مع زوجته وأحد الصّيّادين، وأخذت لقطةً أمام الكاميرا لتلفزيون الشّرق الأوسط (الام بي سي) وكان مقرّه لندن. كان التّقرير قد نقل صورةً حقيقيّةً ومعبّرةً لواقع الحال في هذه الجزيرة الجميلة والتي تعدّ من جنان الله على الأرض لجمالها الخلّاب وشواطئها الجميلة وتراثها الحضاريّ العريق، واستطاعت أن تغدو لؤلؤةً وملاذاً مفضّلاً للسّيّاح من كافّة أرجاء المعمورة، وللعشّاق والعرسان لقضاء شهر العسل كذلك الأمر، ولمحبّي السّكون والهدوء لتغذية الرّوح والطّبيعة الخلّابة والاستمتاع بأشعّة الشّمس الذّهبيةِ. وعكسَ هذا التّقرير جمال الطّبيعة والفقر وشحّة السّيّاح، ووجدتُ ضالّتي في نقل الحقيقة لآثار الحروب على قطّاع السّياحة الذي يعدّ عصب الحياة للملايين في جميع أنحاء العالم.
وقمت بإجراء لقاءٍ مع رئيس مجلس الاستثمارات في سريلانكا والذي كان أصغر شخصٍ سنّاً في العالم في منصبٍ مهمٍّ كهذا، وتحدّث عن الاستثمارات الخارجيّة والمشاريع الحكوميّة، وأوضح بأنّ بلاده تجذب الاستثمارات الأجنبيّة اكثر من جارتها الهند على الرغم من الحرب الأهليّة الدّائرة هناك!
كانت الطّبقة المتوسطة في سريلانكا تنعم بالانفتاح الاقتصاديّ والاستثمارات العالية وسط ثورةٍ من المشاريع الاقتصاديّة وعملٍ دؤوبٍ لتحسين البنى التحتيّة والاستثمار في قطاعيّ الزّراعة والسّياحة اللّذين يعدّان العصب الحيويّ للاقتصاد السّريلانكيّ. كانت عائلات الطّبقة الوسطى تتمتّع عموماً بالأمن الاقتصاديّ، ولم يكترثوا لمعاناة أبناء الطّبقات الفقيرة ذوي الدّخل المحدود.
فخّ الديون ممّن؟
سارع المحلّلون والقادة السّياسيّون في العالم لإلقاء اللّوم على الفساد والرّشاوى وسوء الإدارة ووضع الرّجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وهذه حقيقةٌ، لكن لا تقتصر على سريلانكا، بل تتعدّاها إلى معظم دول العالم .وتحدّث البعضُ الآخرُ عن فخّ الدّيون الخارجيّة، وألقى باللّوم على الصّين، التي لا تتجاوز استثماراتها في الجزيرة عشرةً بالمئة، كما أنّها حديثة العهد على عكس المؤسسات الماليّة الغربيّة التي تهيمن عليها الولايات المتّحدة والدّول الغربيّة واليابان والتي تتجاوز ال80%. وثمّة قلّةٌ ممّن تحدّثوا عن الانصياع للإملاءات الخارجيّة وسياسة الاقتصاد اللّيبراليّ وغيرها من قبل الحكومة السّريلانكيّة دون الأخذ بعين الاعتبار حاجيّات المواطن وتحسين مستوى حياته المعيشيّة والاقتصاديّة، إلى أن وصلت الأمورلمرحلة اللّاعودة وخرجت عن إطار السّيطرة و اندلعت ثورة الجياع .
ولم تكن الأزمة السّريلانكيّة وليدة السّاعة، فمنذ استقلال الجزيرة عن الاستعمار البريطانيّ عام 1948 بدأت القروض الماليّة من صندوق النّقد الدّوليّ والبنك الدّوليّ لإعادة إعمار الجزيرة. ومنذ ذلك الحين والجزيرة قابعةٌ تحت رحمة المؤسّسات الماليّة العالميّة، التي تفرض سياستها الاقتصاديّة اللّيبراليّة على الدّول الفقيرة، تعيدُ هيكلة اقتصادها بما يتلاءم وشروطها لدفع القروض المترتّبة دون أخذ تطلّعات الطّبقات الفقيرة بعين الاعتبار. وجزيرة سريلانكا هي المثال الذي سيلحق بها العديد من دول العالم .
سريلانكا إلى أين؟ والحبل على الجرار…
لايزال الغموض السّياسيّ يخيّم على أجواء سريلانكا وسط حالة الفوضى التي تعيشها الجزيرة بعد هروب رئيس البلاد إلى جزر المالديف وتسّلم رئيس الوزراء رانيل ويكراماسينغي منصب رئيس مؤقت وأعلنت حالة الطوارئ في البلاد وسط مواجهات بين قوات الأمن والجيش والمحتجين. ولن تهدا حفيظة الشعب وهذه الأعداد الهائلة من الجماهير السّاخطة التي تملأ الشّوارع في العاصمة -كولومبو – رافضين العودة إلى ديارهم قبل تحقيق مطالباهم باستقالة رئيس البلاد ورئيس الوزراء ومحاكمة المسؤولين .
بيد أنّ سريلانكا تحتاج إلى الاستقرار السّياسيّ من أجل التّباحث مع صندوق النّقد الدّولي للتّوصّل إلى تفاهمٍ لإخراج البلاد من المحنة الاقتصاديّة، ولكنّ الثّمن سيكون باهظاً في كلا الحالتين، فالشّروط قاسيةٌ وسوف تزيد من الأعباء الاقتصاديّة مع زيادة الضّرائب ورفع الدّعم الحكوميّ عن العديد من القطّاعات، وهذا يعني أنّ حالة عدم الاستقرار سوف تستمرّ لبعض الوقت .
ومع توقّعات صندوق النّقد الدّوليّ والمنظّمة العالميّة للغذاء بأنّ العديد من دول العالم سوف تواجه مصير سريلانكا وتتحوّل إلى طائراتٍ ورقيّةٍ بسبب ارتفاع الأسعار وزيادة نسبة التّضخّم وعدم القدرة على سداد الدّيون الخارجيّة مع انخفاضٍ ملحوظٍ في مستوى النّاتج المحلّيّ .
الدكتور وائل عوّاد