د. سناء شامي
في السنوات الأخيرة وثقت منظمة العفو الدولية الهجمات الكارثية على المرأة على المستوى العالمي، و لا سيما بعد وباء الكوفيد فقد انتكست حقوق المرأة في الدول العربية و الأفريقية بسبب الفوضى و الحروب، في أفغانستان و أثيوبيا تعرضت نساء و فتيات للعنف الجنسي الجماعي، كما انسحبت تركيا من معاهدة إسطنبول التي تقر بمكافحة و منع العنف ضد المرأة...
الإحصائيات تؤكد بأن النساء في أوربا تشغل نسبة منخفضة في مواقع صنع القرار و الأعمال الهامة و ما زلنا يتقاضين أجوراً منخفضة بنسبة 16% أقل من الرجال في جميع أنحاء أوربا، و ما زال العنف و التحرش الجنسي واسع الإنتشار حتى في داخل المنزل، في إيطاليا مثلاً، و خلال الأربع سنوات الأخيرة هناك أكثر من ستمئة امرأة قتلت، أي ما يعادل قتل امرأتين في اليوم الواحد!
هناك روايات حول المرأة عمرها قرون، خلفت قوالب نمطية و نماذج راسخة في كل فرد بما فيهم المرأة ذاتها، و هذا غالباً ما أثر على العمل الإجتماعي من خلال الممارسات السلوكية التي يتم تناقلها بمرور الزمن.
حوالي 750 ق.م أخبرنا الشاعر اليوناني عن أول إمرأة وصلت إلى كوكب الأرض، بعد أن خلقها زيوس ملك الآلهة و أسماها باندورا، و طلب منها حراسة صندوق يحتوي جميع الشرور المميتة في العالم، إلا إنها فتحته منهية بذلك السلام بين الرجال… ظلت صورة باندورا كائناً ثقافياً متكرراً في العديد من المذاهب تمَّ تناقله لقرون بين مختلف المجتمعات… لا أحد يعلم بالضبط كيف نشئ إضطهاد المرأة، و حسب رأي فأن نشأته مربوطة بولادة إستبداد الشعوب، إلا إننا لا نستوعب ذلك لأننا نعتقد بأن الإضطهاد مقتصر بين جنسين مختلفين، إلا إنه في الحقيقة حاضر في أغلب جوانب حياتنا ذكوراً و إناثاً، لكن رمزيته تأخذ شكلاً أكثر وضوحاً في طبيعة العلاقة بين الذكر و الأنثى: إن إضطهاد الرجل للمرأة يحمل في طياته بُعد سياسي و إجتماعي، الرجل أيضاً مضطهد في جميع المجتمعات و لا سيما العربية منها (عليه التملق للحاكم و الخضوع لجبروته، عليه وحده مسؤولية تأمين سبل العيش للعائلة و إلا يُنظر إليه على إنه غير مكتمل الرجولة، الزواج في مجتمعاتنا لمن يدفع مهر أكبر… الخ. إنها السلطة التي تحكم جميع العلاقات البشرية مهما كانت صغيرة أو كبيرة، و توجهها بما يناسب مصالحها، لذلك هذه السلطة رسمت دائماً و في جميع العصور شكل العلاقة بين المرأة و الرجل بما يخدم إستمراريتها، و حتى هذا اليوم ما زالت هذه السلطة تعمل على إخضاع الرجل و المرأة معاً، من خلال إخراج العلاقة من مسارها التاريخي و من دوائرها الحياتية التي تتمثل في الحياة الإجتماعية و أنماط الإنتاج و تشكيلات الإقتصاد السياسي،لتحصرها في أشكال عقائدية غير عادلة تجاه الرجل و غير منصفة تجاه المرأة، لأن السلطة من ولادتها لم تنظر للرجل و المرأة من منظار الحياة و بأنهما معاً إنسان واحد كل طرف يكمّل الآخر، بل نظرت دائماً إليهما من باب الجنس: جنس الأنثى مقابل جنس الذكر الأقوى عضلياً، و لأنه الأقوى جسدياً أعتمدت عليه في حماية وجودها و أقنعته بأن يقيد نصفه الآخر، ألا و هو المرأة، و بذلك تضمن عدم تمرد الأثنين معاً عليها: ففي عصر العبودية، السيد يملك كل شيئ، و بقية الناس رجالاً و نساءً و أطفالاً لا تملك إلا رمقها، و في أسواق النخاسة كانت تُباع الرجال و النساء و الأطفال حسب متطلبات السوق دون التمييز بين ذكر و أنثى، و كان الذكر و الأنثى يعملان جنباً إلى جنب لخدمة السيد أو السيدة، إذ كان هناك عبر التاريخ سيدات تملكن كل شيئ و تضطهدن الرجال و النساء و الأطفال الفقراء الذين يعملون لديها، و في ذلك العهد كان الإضطهاد الأكبر من نصيب الذكر، الذي كان يُحرم حتى من حقه في الزواج أو الإنجاب و يتم خصيه من أجل التفرغ فقط لخدمة سيدات القصور… و حتى في العصر البرجوازي - الرأسمالي و رغم التنوير، فقد كان البرجوازي و البورجوازية لا تميز في إستغلالها للإنسان بين رجل و إمرأة… إذاً بالنظر إلى الواقع المعيشي اليوم و مثيله في العهود القديمة، نلاحظ بأن الإضطهاد لم يكن نتيجة الفارق الجنسي بين الرجل و المرأة، لا بسبب الفارق الطبقي الذي هو نتاج المنظومة السياسية للسلطة…
مثلاً إضطهاد المرأة الإيرانية اليوم ناتج عن مجلس الشورى الإيراني الذي حتى الآن لم يوقع على قانون منع العنف ضد المرأة و على قانون منع زواج الفتيات دون الثلاثة عشر عاماً، و هناك رجال و نساء إيرانيين يطالبون بهذا الحق، إذاً تعنيف المرأة نابع من النظام السياسي.
في الغرب منذ سنوات طويلة انتشرت العبودية الجنسية، فالشوارع و دور الدعارة تعج ببنات الهوى، و أيضاً في الواجهات التجارية تصطف أجساد فتيات عاريات للبيع و للآجار مثل أية سلعة تجارية، و القوانين لا تمنع ذلك باسم الحرية الشخصية، لدرجة أن الدولة سنت قوانين لحماية الدعارة و إعتبرتها مهنة كغيرها من المهن و إكتفت بجمع الضرائب منهم. يقول ماركس "إن التحرر الحقيقي للمرأة يكون من خلال تحرير المجتمع كاملة" الدفاع عن العبد لا يعني التحرر من العبودية. سلطة الإستبداد إستغلت كل ما يتعلق بإنسانية البشر و وظفته لخدمتها، إبتداءً من الدين مروراً بعلاقة الرجل مع المرأة، و ذلك حسب منطقها الأبدي، فرّق تسد. اليوم في الغرب "المتحضر" هناك إمرأة إسمها أورسولا ڤون دير لاين، و هي رئيسة المفوضية الأوربية، نائبها رجل إسمه فرانس تيمّرمانس… يمثلان معاً مصالح الرأسمالية الأوربية و يعملان حنباً لجنب لتعميق المذبحة الطبقية بإسم الإتحاد الأوربي، و التأثير السلبي لتلك المذبحة الطبقية في تزايد في عالم العمل و الطبقات الوسطى داخل و خارج أوربا، دون أن تميز بين رجل و إمرأة لأن الفقراء بالنسبة لسلطة الإستبداد يتشابهون.
أيضاً في العالم العربي هناك نساء شغلت مناصب هامة، لكنها لم تستطع أن تُحسّن من واقع المرأة أو الرجل، لأن السلطة ذاتها لا تريد تغيير واقع الحال، و ما وصلنا إليه اليوم من تراجع هو نتيجة تراكمات سياسية خاطئة أضعفت و قزّمت الرجل و المرأة معاً, و استعملت رجال الدين الذين شوهوا مفاهيم القرآن و حجم المرأة الفعلي في الإسلام و في المجتمع، و ربطوا رجولة الرجل و شرفه بالجنس و تلاعبوا بآيات الله ليفضّلوا الذكر على الأنثى، و يبنوا عنصرية هدامة مبنية على التمييز بين الجنسيين.
في جميع أنحاء العالم كانت المرأة مسجونة في دور الزوجة أو الأم، ثم جاءت الثورة الصناعية الأولى، ففي عام 1840 كان النساء و الأطفال يشكلون ال 75% من اليد العاملة و كانت المرأة محرومة من أدنى حقوقها، و كان إستغلالها جنسياً حق من حقوق سيدها عليها… و مع توالي الثورات الصناعية، أصبحت المرأة موضوعاً إجتماعيا. مرئياً خارج الأسرة، و بالتالي لم تعد محمية خارج المنزل، و وضعها الجديد هذا سلّط الضوء على التناقضات و الصعوبات المرتبطة بهذا التغيير و التي أخذت بالتصاعد إلى يومنا هذا… الثورات الصناعية صاغت هوية انثوية جديدة للمرأة، لا علاقة للرجل بها، هوية تتخبط بين التداعيات الحتمية على العلاقات الأسرية و على المجتمع ككل، و بات يُنظر إليها كموظفة بأجر، و ساعات العمل الطويلة إنعكس على تنظيم الأسرة و على رعاية الأبناء و على توازن الحياة اليومية و على صحتها الجسدية و النفسية، و في هذا الصدد، قال المشرّع الفرنسي جون سيمون بأن المرأة العاملة لم تعد إمرأة… طبعاً المرأة العاملة ليست هي المشكلة، فالمرأة كانت تعمل في منزلها كخياطة، غازلة نسيج و أيضاً فلاحة، و ذلك قبل ظهور الرأسمالية الصناعية، لكنها كانت تقوم بذلك ضمن البيئة المنزلية، كما كان عملها هذا متوافقاً مع دورها التقليدي كإمرأة… لكن في عصر التصنيع، منطق السوق فرض عليها أن توفق بين بيئة العمل و بيئة الأسرة، و هذا زادها إعياءً على جميع المستويات… و السؤال هنا هل إستطاع الرجل أن يعارض إستراتيجية الرأسمالية الصناعية و يمنع إمرأته من العمل خارج المنزل؟ هل فعلاً صارت المرأة حرة، أم طبقت شروط نموذج التنمية الإقتصادية المرتبطة بالرأسمالية؟ هذا النموذج، ألم يفرض نفسه على المرأة و الرجل معاً؟ ألم تفرض الثورات الصناعية على النساء و الرجال الهجرة من الريف إلى المدينة؟ في يومنا الحالي ألم تقتلع الثورة الصناعية الرابعة، الرجل و المرأة من جذورهم و تفرض عليهم الهجرة مسببة بذلك خلل في التوازن بين الدول ذات الإقتصاديات المتقدمة، و بين بقية العالم؟
اليوم مع قورة التكنولوجيا و المعلوماتية تراجع التصنيع، بل بدأ التراجع تدريجياً منذ السبعينات بعد أن فكك المجتمعات المحلية و أدى إلى عزل الرجل و المرأة معاً، و لتحويل العزلة إلى حرب دعمت الرأسمالية مالياً و إعلامياً الحركات النسوية ليس لغرض الدفاع عن حقوقهن ضد إستغلال الرجل لهم و لكن من إجل إبراز وتمجيد الذات الأنثوية و تحجيم معنى الأمومة، و لتهميش صورة الرجل و كسر قوته كإله حامي للأسرة و معيلاً لها و لإضعاف دور أبوته… الرأسمالية بذات الوقت شجعت الأنثى على الإستقلالية بجسدها، فشرّعت قوانين تسمح لها بالإجهاض، و سمحت بتأجير الأرحام و حاربت الحجاب و صنعت الإرهاب الإسلامي، ليس فقط لتسيطر على موارد الشعوب، و إنما لتحارب العقيدة، فاليوم عقيدة المسلمين هي المستهدفة، و يحاولون إستعمال المرأة و إغرائها لتطبيق النموذج الغربي، الذي به قضوا على إيمان و عقيدة الشعوب الأوربية. لذلك اليوم المرأة يجب أن تدافع عن هويتها و هوية مجتمعها من خلال الوعي و التمسك بالعقيدة، و العقيدة غير مرتبطة بدين معين. جميع الثورات الصناعية، عملت على ولادة المجتمع الجماهيري و على انفجار الصراعات الاجتماعية وأزمة النماذج التقليدية في كل العالم، و تم اختبار النظام السياسي الليبرالي بشدة من قبل القومية والإمبريالية التي أثرت على جميع القوى الأوروبية و العربية ومهدت الطريق لكوارث الحروب الكبرى، و كان تعميق الخلاف بين المرأة و الرجل إستراتيجية حتمية لإضعاف و تفتيت المجتمعات من الداخل… اليوم مع ثورة التكنولوجيا، يدفعون لتأنيث الذكر ، و جعل الإنثى ذكر، حكومة الدنمارك مثلا، أعلنت تمويلها و دعمها لكل من يريد أن يقوم بعملية التحويل الجنسي. اليوم في أوربا تنتشر إيديولوجية الإنسان كنوع إجتماعي و يدفعون بشدة نحو إختفاء الذكر: في العقود الأخيرة ، ركزت الأيديولوجيات النسوية ، اللواتي ينشرن أيديولوجية النوع الاجتماعي اليوم) بشكل كبير على حب الظهور و على التفوق على الذكر، وغالبًا ما يقلدن الرجال ويحتقرونهم ، لدرجة أن الجنس الذكوري أصبح يكره نفسه ويميل أكثر فأكثر للتأنيث. إن ظاهرة تأنيث المجتمع المعاصر تخفي مخططات هدّامة ضد الرجل و المرأة معاً، و للآسف بدأت تغزو مجتمعاتنا العربية من عدة وجوه. لا يمكن أن ننظر لحقوق المرأة بمنأى عن وضع الرجل و بمنأى عن الموديل السياسي و الإقتصادي السائدين في كل مجتمع، و خصوصاً في دول المركز التي تصدر سياساتها و أشكال إقتصادها إلى البلدان العربية و النامية، و تفرض عليها رسم حياة إجتماعية تناسب مصالحها مستغلة هشاشة واقع المجتمع نساءً و رجالاً. من أكبر المخاطر التي تواجه المرأة العربية اليوم هو عدم إمتلاكها لأدوات المعرفة و المهارات البنّاءة و غياب الوعي…
اليوم أكثر من أي يوم مضى، يحدث في البلدان العربية تغيير جذري للنسيج الإجتماعي، و ليس هناك استراتيجيات تنموية و توعوية قادرة على توظيف التكنولوجيا لصالح المرأة و الرجل معاً. دور المرأة اليوم يجب أن يكون بطولياً للدفاع عن نسيجها الإجتماعي، و عن هويتها التي لا يمكن فصلها عن هوية الرجل، فهو مقياس إنوثتها و بالعكس، و بدونه لا يمكن خياطة النسيج الإجتماعي، حقوق المرأة تُحفظ عندما تقوم بتربية الذكر على التوازن و على إحترام الجانب المكمّل لشخصيته، ألا وهو المرأة… و الله في كتابه العظيم قال: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى، أي من نفس واحد منها الذكر و الأنثى، و الواو حرف عطف تربط و توحّد. دور المرأة اليوم أن تنشر المؤازرة بين النساء، و دحض ثقافة المرأة عدو المرأة، ففي المجتمعات العربية ما زالت زوجة الإبن تُعامل كعدو و أسرة الزوجة أو الزوج مثل شر يجب تجنبه، و هذا غالباً ما يسبب ضغوطات نفسية و مادية هائلة على المرأة و الرجل في حياتهما اليومية، على المرأة أن تدعم المرأة و لا تقلل من شأنها أو تعمل على إحباطها بسبب الغيرة، الوحدة بين النساء شرط أساسي لبناء المجتمع و حماية حقوقها. يجب أن تعي المرأة اليوم بأنها مستهدفة من نظام إمبريالي يفرض منظومته الفكريه و الثقافية المدمرة و يرى في المرأة سلعة و سلاح فعّال و فتاك لتفتيت المجتمع من الداخل، لأنه مدرك بالقوة الطبيعية للمرأة في بناء الأسرة و المجتمع… و كما استعمل الدين لتفريق المجتمعات، إستعمل أيضاً المرأة لطحن ما قام بتجزأته. إن تغيير أو بالأحرى تحسين أوضاع المرأة، يبدأ بالوعي الكامل و الشامل للمسير التاريخي و مقارنته مع واقع الحال