لِمَاذَا بَكَى أَبِي ؟

    لِمَاذَا بَكَى أَبِي ؟

    خادعني النّومُ ليلة أمسٍ رغم محاولاتي اليائسة لإعادة السّاعة البيولوجيّة إلى مسارها الطّبيعيّ بعد مشاركتي ليومين متتاليين في حوارٍ تلفزيونيٍّ في السّاعات المبكّرة من الصّباح حسب التّوقيت المحلّيّ للهند

    لم أنم جيّداً لأنّ الحوارات الطّويلة تحتاج إلى تركيزٍ وتحضيرٍ للحجج والبراهين والردّ على المشاركين في الحوارات وأسئلتهم المتنوّعة، ويصعُبُ بعدها العودة للفراش . صحوت باكراً على صوت صراعٍ بين القطط بالقرب من شبّاك غرفة النّوم مع خيوط أشعّة الشّمس الذّهبيّة التي بدأت تتسلّل إلى غرفتي، وقرّرت النّهوض من السّرير والتوجّه إلى غرفة المكتب لمتابعة الأحداث اليوميّة بعد احتساء كأسٍ من المتّة وفنجانٍ من القهوة الصّباحيّة كي يُوقَظَ شعوري الدّافئ، وتنجلي سحبُ الأرق والإرهاق عن عينيَّ، ويدبّ النّشاط والحيويّة في أوصالي من جديدٍ.

    كنت قد اعتدتُ شربَ كأس المتّة في الهند صباحاً فقط لتعذّر وجودها في شبه القارّة، كما كان يحملني صوت فيروز الملائكيّ الذي دأبنا على سماعه من إذاعة دمشق في برنامج "مرحباً يا صباح " إلى تلك الجبال السّامقة في بلادي، ومن ثمّ كنت أستمعُ إلى الأخبار في إذاعة لندن الإخباريّة. وقد ورِثتُ هذه العادة عن أبي رحمه الله بعد عودته من صلاة الصّبح، وواظبتُ عليها إلى أن قدِمتُ إلى الهند، فاختلفت المواعيد والأولويّات، لكنّ الشبكة العنكبوتيّة وفّرت لنا فرصاً كثيرةً لسماع الأغاني المفضّلة ونشرات الأخبار في أوقاتٍ متفاوتةٍ حسب فرق الوقت وأهميّة الحدث .

    كانت السّاعة تشيرُ إلى الخامسة صباحاً، جهّزت غلّاية المتّة وجلستُ على جهاز الحاسوب أطالع رسائل البريد الالكترونيّ، وصوت فيروز الهادئ يصدحُ في الأجواء من حولي، وأنا أبدأ بإرسال الرّسائل الصّباحيّة للأصدقاء والأحبّة، وأتجنّب فتح الفيديوهات التي توتّر الأعصاب (تهزّ البدن) بسبب تردّي الأوضاع المعيشيّة في وطني والمعاناة اليوميّة للمواطنين جراء الخناق الاقتصاديّ المفروض على سورية، والحرب المدمّرة التي يشتدّ سعيرها في الشّمال السّوريّ .

    لطالما كنتُ أنتشي وتغمرني السّعادة إذ تجري الإذاعة البريطانيّة وإذاعة دمشق وبقيّة المحطّات لقاءً معي حول حدثٍ هامٍّ في الهند ودول الجوار، إذ كنتُ أعلم يقيناً أنّ والدي (رحمه الله) كان يستمع إلى رسالتي في الصّباح أو يذهب إلى دكّان جارنا البقّال، ويجلس مع أصدقائه الذين يحدّثونه عن حديث ابنه على إذاعة دمشق أو لندن أو التّلفزيون السّوريِّ.

    لم تكن الاتّصالات سهلةً من الهند في بداية الأمر، وكانت مكلفةً أيضاً، وكنت أتّصل بالأهل مرّةً في الأسبوع، وكنّا نرسل لهم الرّسائل البريديّة الأكثر تفصيلاً عن أوضاعنا ومعاناتنا وحياتنا اليوميّة؛ بيد أنّ عملي الصّحفيّ وفّر لي فرصةً لطمأنة الأهل أنّني بخيرٍ، إذ كانت البهجة تملأ قلبي إذ يستمع والدايَ لرسائلي الصّوتيّة والتّقارير التي أعدّها أو إلى الحوارات مع الإذاعة .

    هذا الصّباح كنت أحاول أن أخلقَ جوّاً وطاقةً إيجابيّةً تنعشنا من جديدٍ، بيد أنّ الأخبار كالعادة ليست بالسارّة. أخذتُ أستمع لراديو بي بي سي عن الحروب الطّاحنة الدّائرة التي تحصد أرواح الأبرياء في أكثر من منطقةٍ ودولةٍ عربيّةٍ، ودخلتُ على موقع تسجيلٍ مسبقٍ لبرنامجٍ، وفاضت الدّموع من عينيَّ بعد أن استمعت  إلى مقابلةٍ أجرتها معي هيئة الإذاعة البريطانيّة في برنامج بي بي سي إكسترا، وتذكّرت كيف كان والدي - رحمه الله - ينتظر سماع صوتي في حوارٍ مع الإذاعة، وتصوّرت نفسي مكانه وأنا أسمع اللّقاء، وانتابني شعورٌ غريبٌ، وتراءى لي طيف والدي وهو متّكئٌ على الأريكة يسحب نفساً من تبغه الملفوف بورق الشّام الوطنيّ، إذ كان يبتاع الدّخان من مدينة حماه، و كان التّبغُ قويّاً جدّاًورائحتهُ واخزةٌ. بيد أنّ أبي كان يتلذّذ بلفافته وهو يحتسي فنجان القهوة المرّة، ويصرخ بأعلى صوته كي تأتي والدتي من المطبخ وتسمع معه حديثي، إذ يقضي السّاعات الطّوال يستمع للإذاعة ليعلم بأنّ حدثاً هامّاً قد وقع في جنوب آسيا. كم كان يشعر بالغبطة لسماع صوتي قبل مغادرته المنزل، ولم أخيّب ظنّه بكلامي أو بمواقفي الرّاسخة قطّ.

    لقد خصّني أبي بوقتٍ إضافيٍّ من عمره الغالي الدّفين ليستمع لي ويدعو الله أن يحميني هو ووالدتي، أطال الله بعمرها، وينتهي اللّقاء بمنافسةٍ حول تقاطعي مع أهل أبي أو أهل أمّي، فبينما يصرُّ أبي أنّي أشبهه - آل عوّاد -  تقول أمّي: طالع لبيت الضحّاك، وقد يودّعها على باب الدّار قبيل الشّجار، وكلُّ طرفٍ متمسّكٌ برأيه .

    كبرَ أبي فجأةً بسبب المرض وكان يكابر على نفسه، فهو الرّجلُ القويّ ذو العضلات المفتولة؛ لطالما حاول مقاومة المرض والتمرّد عليه وممارسة حياته اليوميّة، لكنّه ضعُفَ جسديّاً في آخر أيّام حياته، ولم يطل المرض إرادته الصّلبة، فقد حافظ على رباطة جأشه وذهنه المتّقد وذاكرته القويّة. بدأت أشعر به يكبر بسرعةٍ، وكنت أخاف عليه، وأخاف أن أفقده.  دأبت على أن أتّصل به يوميّاً لسماع صوته في أواخر حياته بعد أن تحسّنت الاتّصالات وانتشرت خطوط الانترنت لتربط العالم ببعضه البعض، وكنت أجري معه أحياناً اتّصال فيديو، إذا كانت شبكة الاتّصالات جيّدةً، وأطلب منه موّالاً كنّا نستمع إليه على صوت الرّبابة بصوت ملك الرّبابة صادق حديد وابنه رحمهما الله في المنزول في ضيعتنا تلتوت. كان صوته أجشّاً، بيد أنّه مازال يتمتّع بروح المرح ويحفظ المواويل، وهي طريقةٌ أطمئِنّ بها أنّه لم يصب بمرض الشّيخوخة أوالزهايمر أو الباركنسون .

    أسندت ظهري بقوّةٍ على الكرسيّ، وأغمضتُ عيناي لأرى والدي جيّداً وهو يذرف الدّمع، وقلّما كان يبكي أمامنا إلّا عندما تكون هناك مأساةٌ في مواقف معيّنةٍ. أذكر الدّموع الحارقة في عينيه عندما رحل جدّي عن الدّنيا، إذ كان يقيم فوق شقّتنا بالطّابق العلويّ من البناية التي شيّدها لأولاده .

    وعندما أصبح أبي طريح الفراش كان أكثر حزناً وألماً لما يحدث حولنا من حروب جهنميّةٍ دمّرت البلاد، وشرّدت الملايين، وقتلت الآلاف. لقد بكى أبي خلال مكالمةٍ هاتفيّةٍ معي ذات مرّةٍ وهو يطلب منّي عدم الحضور إلى زيارته في مدينتي السّلمية في آخر زيارةٍ لي إلى سورية في بداية الحرب عام 2011 . قال لي: "يا بُنيّ، هذا الدّمار لتخريب البلد، لقد بنينا لكم هذا الوطن ولكنّ الحرب بدأت تُدمّر ما بنيناه؛ ماذا ستتركون لأطفالكم لكي يعيشوا بكرامةٍ ورفاهيّةٍ وحريّةٍ؟" لم يسمح لي بالحضور من دمشق إلى السّلميّة، وطلب منّي العودة إلى الهند، وأقسم عليَّ ألّا أعود إلى سورية قبل أن تنتهي الحرب، وألّا أعود لو اضطرّ إخوتي لنقله إلى المقبرة، وفي نفس اليوم استشهدت طالبةٌ جامعيّةٌ سوريّةٌ كانت تستقلّ الباص من العاصمة دمشق إلى مدينة السّلميّة عندما استهدف قنّاصٌ باص النّقل وأصابتها رصاصة الغدر .

    بقيتُ لعدّة أيّامٍ في دمشق، وعدتُ أدراجي إلى الهند حزيناً لعدم قدرتي على لقاء والدي الذي وافته المنيّة فيما بعد ولم يتسنَّ لي المجيء إلى سورية لوداعه.

    ما أقسى الذّكريات! ترى هل مازال يبكي أبي لما آلت إليه الأحوال في بلدنا الحبيب من تدهورٍ؟ "أتمنّى أن تجد روحك السّلام والسّكينة في مرقدك الأبديّ يا والدي" همستُ لنفسي... فتحتُ عيناي المتعبتان، مسحتُ عبراتي عن وجنتيّ، وعدتُ إلى سماع صوت فيروز وكانت أغنية (هالسّيّارة مش عم تمشي، بدها حدا يدفشها دفشة)، وساقني شريط الذّكريات إلى المسرحيّة، مسرحيّة ميس الرّيم.... آه يا زمن، كم استمتعنا بمشاهدة هذه المسرحيّة و أطربتنا أغانيها! لكنّ الصور القديمة للأغنية تغيّرت، وحلّت مكانها صور طوابير السّيّارات التي تنتظر على الكازيّات بسبب أزمة الوقود الحادّة التي تعاني منها سورية، ويعود الفضل بذلك إلى الولايات المتّحدة التي تحاول تضييق الخناق على النّاس، و تجويع الشّعب السّوري، وسرقة خيراته على مرأىً من العالم دون رادعٍ. لا أذكر على مدى السّنين التي قضيتها في سورية أنّنا وقفنا على طابورٍ للخبز أو الوقود ولا حتّى على طابور أسطوانات الغاز، بل كان جارنا يجلب شاحنات الأسطوانات ويفرغها أمام محلّه ونقوم بنقلها للبيت دون الحاجة للانتظار طويلاً.

    ترى ماذا تغيّر؟ هل حقّاً هذا ما كنّا نتطلّع إليه؟ كانت الدّراسة ومازالت مجّانيّةً، وكذلك المعالجة الطبيّة ودفاتر التّموين للمواد الضّرورية لكلّ عائلةٍ متاحةً، واستمرّت الحالة لأكثر من خمسين عاماً على الرّغم من المصاعب الاقتصاديّة التي واجهتها سوريّة بسبب الحصار الاقتصاديّ من الدول العربيّة والغربية بين الحين والآخر .

    أطرح التّساؤلات هنا، ولا أريد أن أشعركم بالإحباط، غير أنّني أردتُ أن أكون أكثر واقعيّةً وعقلانيّةً في قراءة ما يجري في سورية. لماذا بكى أبي؟ ولماذا ينتابني شعورٌ بالعذاب؟ ألا تكفيني وحشة الغربة وفراق الأهل؟ لماذا نتحوّل إلى أشباحٍ تحترق من الداخل؟هل جفّت مآقينا ولم نعد نقوَى على البكاء ولم تعد دموعنا قادرةً على رأب الجراح على الرّغم من الغصّة المصحوبة بالألم التي تقطّع أحشاءنا لما آلت إليه الأمور؟

    كم أنا بحاجةٍ إلى حنان أبي وكلماته التي تتردّد في ذهني لأسشعر الدّفء والأمان من جديدٍ! بدأ رأسي يميل على جانب كرسيّ المكتب وكتفي يستند على كتف أبي وكأنّني في أحضانه وهو يضمّني برفقٍ ويقبّلني، وخمد الصّراخ في أعماقي بعد أن مزّق حنجرتي على مدى السّنين الفائتة ونحن ندافع عن الوطن بكلّ ما أوتينا من قوّةٍ، وأردّد في قرارة نفسي: "نعم مازال عالمنا صالحاً للعيش، ونحن نولد من قلب الأزمة ."

    سامحك الله يا أبي، مازال طيفك يحوم حولي، وكلماتك تنبض في ذاكرتي. كان وجع رحيلك قويّاً وسأحنّ إليك أبداً، لكنّني لم أعتد التّشاؤم ولا مجال لديَّ للاستسلام، أنتظر الحدث الذي سينبت من التراب، من تحت الرّماد. هذا المخلوق الجديد الذي سيُولد من قلب المعاناة سيكون أكثر وعياً ويوقظ فينا شعوراً مبهجاً نشطاً نتجاوز به المخاطر ويبعث فينا سرّ الحياة من جديدٍ، ويعيدنا إلى مسارنا الطّبيعيّ. إنّي أُبصرُ نوراً يضيء بقعة سرّ الوجود ويبدّد الظّلام فيسود النّور، ونحن في انتظار رحمة الله وليس غودو...

    هكذا تستمرّ و تنتصر الحياة على الموت. اللهمّ أرسل برداً وسلاماً على قبور آبائنا وامنحهم الرّحمة والأمان إلى يوم يبعثون...

    بقلم: د. وائل عوّاد

    الكاتب والصّحفيّ السّوريّ المقيم في الهند

    Please publish modules in offcanvas position.