بنغلاديش: الاحتجاجات وأطماع الكبار.. تحليل للأزمة الداخلية والتأثيرات الخارجية

    بنغلاديش: الاحتجاجات وأطماع الكبار.. تحليل للأزمة الداخلية والتأثيرات الخارجية

    الدكتور وائل عواد

    خلال تغطيتي للفيضانات العارمة عام 1999 التي اجتاحت بنغلاديش، سألت رئيسة الوزراء السيدة شيخ حسينة واجد: “هناك كارثتان في بلادك؛ الأولى من صنع الله عز وجل وهي الفيضانات، والثانية من صنع البشر وهي الإضرابات التي تضرب بنغلاديش بينك وبين غريمتك السيدة خالدة ضياء، حيث تتقاسمان السلطة وتشلان حركة السير ويتضرر الاقتصاد. سؤالي: هل هناك حل لهذه الكارثة؟”

    ابتسمت السيدة حسينة وأجابت: “أنت على حق. نحن ديمقراطية حديثة نحاول أن نمارس حقوقنا ونتعلم الحياة الديمقراطية، ولكن سوف نبحث عن حل لمنع تضرر البلاد.”
    لكن رئيسة الوزراء اتخذت منحى آخر للقضاء على المعارضة، حيث مارست كافة أنواع التعسف لتهميشها، واتهمت حكومتها بالفساد والمحسوبية، ومارست سياسة وحشية في قمع المتظاهرين، القتل خارج القانون، الاختفاء القسري، والتدخلات في نظامي القانون والجيش، بالإضافة إلى إغراء قادة الجيش بالهدايا السخية وتعيين المقربين لها في صفوف الجيش.

    وفي عام 2009، عندما عادت إلى السلطة وما زالت على رأس الحكم حتى الآن، تقربت إلى الحكومة الهندية وطلبت مساعدة الجيش الهندي لقمع التمرد في صفوف الجيش بعد أن شعرت أن هناك تهديدات على حياتها وحكومتها. وكانت حينها وزيرة الدفاع أيضًا. وبالفعل، أرسلت الهند كتيبة من الجيش بالقرب من الحدود ووضعت قواتها الهندية في حالة تأهب قصوى للتدخل السريع معتبرة أن القضية تمس بالأمن القومي الهندي. ونجحت في إنهاء التمرد وفرض سيطرتها على الجيش ومسك السلطة بقبضة حديدية لمدة خمسة عشر عامًا متتالية، وزادت من تقربها للهند في ظل حكومة حزب بهارتيا جاناتا القومي الهندوسي المتهم بمعاداة الإسلام.


    الاحتجاجات كنقطة تحول


    تعود جذور الاحتجاجات في بنغلاديش إلى عام 1972 بعد الاستقلال عن باكستان، حيث تم تخصيص 30٪ من الوظائف الحكومية للمقاتلين من أجل الحرية وأسرهم على يد الأب الروحي لبنغلاديش مجيب الرحمن والد رئيسة الوزراء حسينة واجد. مضى على هذا القرار خمسون عامًا ومات معظم المناضلين تاركين أولادهم وأحفادهم وهم يشكلون أقلية وما زالوا يشغلون ثلث الوظائف الحكومية. وعلاوة على ذلك، حاولت الحكومة تحديد نسبة 30.56٪ من الوظائف للمناضلين، 10٪ للنساء، و10٪ للمناطق الفقيرة. هذا يعني انخفاض كبير في الوظائف الحكومية حيث يتنافس 400,000 طالب على 4,000 وظيفة فقط في بلد يعاني من التضخم (10٪) والبطالة (20٪) وسوء الإدارة.

    في عام 2018، وقعت احتجاجات دفعت الحكومة إلى العدول عن قرارها. ولكن عادت هذه المرة لطرح تخصيص الوظائف من جديد، مما تسبب بهذه الاحتجاجات التي استغلتها أحزاب المعارضة. وقامت المحكمة العليا بإلغاء الأمر التنفيذي وأعادت جميع التحفظات، وأمرت بأن تظل حصة المقاتلين من أجل الحرية 5٪، مع تخصيص 93٪ من الوظائف حسب الكفاءات. لكن هذه الإجراءات لم تهدئ غضب الشارع الذي يطالب الحكومة بالاعتذار، ومعاقبة المسؤولين عن القتل، وإطلاق سراح جميع المعتقلين، وإعادة خدمات الإنترنت والهاتف الجوال، وفتح المدارس والجامعات، ورفع حظر التجوال.


    الأزمة من صنع الحكومة


    زادت المتاعب على حكومة شيخ حسينة، وتحتاج إلى اتخاذ إجراءات حثيثة لاحتواء غضب الشارع وإعادة ثقة الشعب وامتصاص النقمة وتحسين سمعة بنغلاديش عالميًا بعد أن تعرضت لانتقادات لاذعة من قبل الأمم المتحدة وتنديد من قبل جماعات حقوق الإنسان.
    كشفت الاحتجاجات الأخيرة عن الفجوة العميقة بين المجتمع المدني والدولة، وغيرت المشهد السياسي في بنغلاديش، حيث عاد الشارع ليحدد مسار الديمقراطية في البلاد، خاصة بعد طريقة القمع البشعة التي تعرض لها المتظاهرون. اتهمتهم الحكومة بالولاء لباكستان (زاركار) بعد تصريحات مهينة من رئيسة الوزراء نفسها وأنصارها، خاصة الحركات الطلابية الموالية للحكومة التي شاركت في قمع المحتجين وإطلاق الرصاص الحي، مما أدى إلى مقتل حوالي 300 شاب وإصابة حوالي 3000 شخص واعتقال عدد مماثل، في ظاهرة غير مألوفة في الحياة البنغلاديشية منذ الاستقلال عن باكستان عام 1971. قامت السلطات بإغلاق الجامعات والمدارس وقطع الإنترنت والهواتف الجوالة وفرض حظر التجول، على مرأى من المجتمع الدولي الذي كان يتابع بقلق هذه التطورات. ولم تنفع جميع هذه الإجراءات في قمع المظاهرات التي انتشرت بشكل واسع وسط سخط شعبي ضد حكومة شيخ حسينة واجد.


    الأبعاد الخارجية وصراع الكبار


    يعد موقع بنغلاديش الجيوسياسي الهام محط أطماع الدول العظمى المتنافسة في المحيط الهندي، فهي على علاقات وثيقة مع الهند، والصين شريك استراتيجي، والولايات المتحدة دولة معادية.
    راهنت رئيسة الوزراء شيخ حسينة واجد على التقارب مع نيودلهي التي قدمت لها الدعم الكامل وعززت من علاقاتها التجارية والاستثمار في مجالات الطاقة والاتصالات والموانئ، لإبعاد الحزب الوطني البنغلاديشي وجماعات الإسلام المقربين من باكستان من الوصول إلى السلطة، بعد أن كانت تتهمهم نيودلهي بدعم حركات التمرد في الولايات الشمالية الشرقية القريبة من بنغلاديش. الأمر الذي زاد من نقمة الشعب ضد الهند وزاد من العداء لها بعد أن اتهمت أحزاب المعارضة الحكومة الهندية بمعاداة المسلمين الهنود وقمعهم بشكل مستمر ودعم حكومة صورية في بنغلاديش لقمع المسلمين.
    سارعت حكومة حسينة باتهام الولايات المتحدة بالوقوف وراء الاحتجاجات وتحويل البلاد إلى مركز للمنظمات الإرهابية مثل القاعدة وتنظيم الدولة (داعش)، وهما صناعة أمريكية كما قال وزير التغذية قمر الإسلام، بينما تدعي أنها تحمي بنغلاديش من الإرهاب وهذه مؤامرة جديدة على حد قوله. وكانت شيخ حسينة قد صرحت بأنها رفضت طلبًا أمريكيًا بإقامة قاعدة عسكرية جوية في بنغلاديش. وكشفت السيدة حسينة في مايو/أيار الماضي عن مؤامرة أمريكية (دون تسميتها بشكل مباشر) ضد بلادها لتقسيمها وإنشاء دولة مسيحية في خليج البنغال تشمل أراضٍ من ميانمار وبنغلاديش على شاكلة تيمور الشرقية في إندونيسيا.


    هل تستطيع الحكومة احتواء الاحتجاجات؟


    تواجه الحكومة أزمة اقتصادية حادة على الرغم من النمو الاقتصادي الجيد، فقد حصلت على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 5 مليارات دولار أمريكي وهي عاجزة عن تسديده في حينه. واليوم تعيش بنغلاديش حالة من الفوضى السياسية تهدد مستقبل الحكومة، وكانت الاحتجاجات جزءًا من الحياة الديمقراطية ولكن هذه المرة كانت دموية. تحتاج السيدة حسينة، البالغة من العمر 76 عامًا، إلى حكمة في ضبط الشارع وتلبية مطالب الشبان الغاضبين. قد تحتاج على المدى القريب إلى الاستجابة لمطالب المتظاهرين وإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية، والعودة إلى نظام متعدد الأحزاب لإعادة إحياء الحياة الديمقراطية في البلاد وفتح حوار مع أحزاب المعارضة، ربما لتشكيل حكومة وطنية أو إجراء انتخابات نزيهة تنقذ البلاد من الأزمة. إذا ما أرادت تجنب كارثة حقيقية وتجنب بنغلاديش من عاصفة تضرب خليج البنغال تفشل الحكومة في تجنبها، وتجرها للوقوع في أيدي الأعداء المتربصين لها لتقسيمها ونهب ثرواتها، والهند ستكون أول المتضررين وسوف يتعرض أمنها القومي للتهديد بشكل مباشر.

    Please publish modules in offcanvas position.