د. سناء شامي
خلال مشاركتي في مؤتمر بنغازي للأمن السيبيراني، إلتقيت بصديقي ذو الشخصية المميزة، د. إدريس هاني. اللقاء به بعث في داخلي الفرح، فالحوار معه ثراء و متعة. إدريس هاني مفكر عربي، فيلسوف، باحث و كاتب، عالم سياسة و محلل جيوستراتيجي سياسي، و لأنه صاحب مشاعر عميقة، فهو أيضاً شاعر. مسيرته الفكرية مليئة بمؤلفات و أعمال أدبية و مقالات كثيرة تتراوح بين النقد البناء و الدفع حول نهضة عربية شاملة. و خلال لقاؤنا في المؤتمر، تحاورنا في مواضيع عدة، و هذه إحدى الحوارات التي دارت بيننا:
س١/ يرى الخبراء بأنه لا توجد دولة تستطيع أن تحمي نفسها من الهجمات السيبرانية. وإذن د. إدريس هاني، كيف يمكن للدول العربية أن تنجز بنيات تحتية لأمنها السيبراني، بينما في الواقع بنيتها مفككة وضعيفة؟
د. هاني: بالفعل، الهجمات السيبرانية طالت بلاد المركز التي تملك إمكانيات كبيرة في حماية بياناتها الحساسة. والأمثلة على ذلك لم تعد خافية. ولعل السبب في ذلك هو أنّ الجريمة وُجدت قبل ميلاد التقنية السيبرانية، وحين ظهرت هذه الأخيرة في الوجود، وأصبحت في يد العموم ، كان لا بدّ أن يصبح الفضاء السيبراني ساحة لصدام الخوارزميات. وهذا ما أرمز إليه بجملة: "كلنا نصل في الموعد نفسه"، أي كلنا نركب القطار السريع نفسه ونصل إلى أهدافنا في التوقيت نفسه. فالجريمة المنظمة وغير المنظمة، تستفيد هي الأخرى من الذكاء الصناعي.
وإذا كان وضع بلاد المركز غير متمنّع هو نفسه عن هذه الهجمات، فالوضع في العالم العربي يبدو أكثر هشاشة. لكنه، بغضّ النظر عن أنّ بعض الأقطار العربية تقدمت أشواطا على طريق الأمن السيبراني، كما يبدو ذلك من التصنيف العالمي، تظل معظم الأقطار الأخرى عاجزة عن تحقيق الرقمنة الكاملة لقطاعاتها الحيوية، لكنها تعيش عموما حالة الهشاشة السيبرانية، إذ لازالت معظم الأقطار العربية عاجزة عن الاستقلال السيبراني، بسبب غياب الابتكار وضعف البرمجة والتمويل الكافي للبحث العلمي في هذا المجال، وهو ما يعزّز التبعية السيبرانية، ويجعل فضاءها السيبراني مستباحا، كما يجعل بياناتها عرضة للتهكير والاختراق.
س٢/ الإرهاب الكيماوي والبيولوجي والنووي، أليس كل هذا أكثر خطورة من الإرهاب السيبراني؟ إذن، لماذا كل هذه الضّجة حول أمن المعلومات؟
د. هاني/ الأمر هنا يتعلّق بعملية التشبيك وشمولية الرّقمنة، والدخول إلى المعطيات يُصبح قصة خواريزميات خارقة للبرمجة، وهنا مكمن الخطر. فلو تمكن الإرهاب من تفكيك شيفرة الدخول إلى البيانات المتعلقة بالمواد ذات الإشعاع العالي واختراق مخازن الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية، فهذا يعتبر خطرا. فالجريمة السيبرانية تكمن في فكّ الشيفرة واختراق المعطيات وصولا إلى المعلومة وتوظيفها. في مثل هذه الحالة لا تنفع القوانين المنظمة للحقل السيبراني كافية، إذا لم تعزز ببنية سيبرانية قوية. لن يوقف شطط التقنية إلاّ التِّقنية.
وبعيدا عن هذا الأمر، ثمة مخاطر آنية تتعلّق بالجرائم التي تتهدد ودائع النّاس، وهو أمر سيصبح أكثر خطورة مع تعميم العملة الرقمية. حين تصبح كل معاملات الناس سيبرانية، المعاملات البنكية، العملة الرقمية، التعاقدات الرقمية، حتى القضاء حين يصبح تحت طائلة الذكاء الطبيعي. لا أقول أنّ الأمر يجب أن يتوقّف، لأنّ قطار التقدم سائر بلا رجعة، ولكن أقصد أنّ التطور يجب أن يراعي أيضا جانب الأمن السيبراني، التهديدات الناجمة عن تطور البرمجة يجب أن يواكبها تطور في حماية الأمن السيبراني والاستقرار الاجتماعي ومنظومة الأخلاق العامة.
س٣/ هل هناك عمل عربي مشترك من أجل رقمنة اللغة العربية، لا سيما أن علاقتها بالهوية وثيقة جدّا؟
د.هاني: لعل ذلك بالفعل هو التحدّي الكبير الذي يواجه الأقطار العربية. ذلك لأنّ ضعف رقمنة اللغة العربية يعزز الفجوة الرقمية، ويضعف صبيب وجودة المحتوى العربي. ويشهد الفضاء الرقمي فوضى في استعمال وتداول اللغة، لضعف البرمجة الخاصة بالمعاجم بأساليب رقمية ميسرة تتناسب مع خصوصية العربية في التّشقيق والإعراب، ناهيك عن تجديد المصطلح. ولك أن تكتشف ذلك عند ترجمة بعض الألفاظ، لتكتشف الفوضى، لا سيما وأنّ محرك البحث يتعامل مع الألفاظ والصيغ الأكثر تداولا، وهذا يتهدد جودة العربية، لأنّ الفضاء الرقمي مفتوح على اللهجات والأخطاء. فغياب برمجة دقيقة وعناية كبيرة باللغة العربية، تجعلها، ليس فقط متأخرة من حيث نسبة المحتوى العربي من سائر اللغات، حيث لا يتعدى الواحد في المائة، بل ستشكل أيضا عائقا في طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما يضع سؤال الهوية الرقمية على المحك. وفي ظلّ هشاشة الوضع العربي، فإنّ قيام مؤتمرات تحت إشراف الاتحادات العربية، مثل اتحاد الجامعات العربية، سيكون من الأولى أن تنصبّ جهوده على رقمنة اللغة العربية ووضع برامج متطورة للرفع من جودتها وتقليص الفجوة الرقمية على صعيد اللغة.
س٤/ هل توجد علاقة بين إنشاء مراكز للأمن السيبراني في الدول العربية، وبين خطة السلام الأمريكية في الشّرق الأوسط، لا سيما أن تمويل هذه المراكز يأتي من مصادري غير معلن عنها(ONG)؟
د.هاني في إطار العلاقات الدولية غير المتكافئة، وأثرها على الإقليم الأكثر ارتباطا بالمصالح الحيوية والنفوذ الدولي والإقليمي، كل شيء ممكن. ولكن موضوع الأمن السيبراني بات حاجة ملحّة لكل الدّول والمؤسسات بل حتى الأفراد. فأنماط الحروب القادمة تتطلب مهارات سيبرانية كبيرة. لا مستقبل لأي دولة لا تعزز بنيتها السيبرانية وتُحصّنها.
س٥/ العالم اليوم أصبح قرية صغير، على الرغم مما سمّي بالربيع العربي (وأنا أسميته ثورات الربيع العربي)، لماذا لم ترفع الحواجز وتفتح الحدود بين الدول العربية، ولماذا مازال المواطن العربي يحتاج إلى تأشيرة الدخول؟
د.هاني: الغريب أنّ الحدود فتحت أمام الإرهابيين، ولكنها أغلقت بشكل أكثر مما كانت عليه. لقد فتحت الحراكات العربية الباب على مصراعيه لكل أشكال التدخل، لأنّها شيطنت نُظمها السياسية ومَلْكَنة(إن صحّ التعبير) التدخّل الخارجي. ما سمي بالربيع العربي، فتح ثُقبا هائلا في جدار الوطن العربي، لكنه لم يملأ ذلك الثقب الذي تسللت منه كلّ عوامل الهشاشة.
الحلم الكبير بعلاقات عربية تكاملية تُعزز الأمن العربي وترفع منسوب التنمية، يمكن أن يسهّل فتح الحدود، لكن هذا اليوم بات صعب المنال لأسباب تتجاوز حراكات شباب ارتفعت لديهم نسبة الأدرنالين وهيمنت عليهم النزعة الطوباوية لعالم مخملي، لكنهم لم يقدّروا أنّ التغيير هو مسار سوسيو-تاريخي، وبأنّ العالم محكوم بقواعد اشتباك حساسة، وأنّنا نوجد في بيئة دولية ذات نزعة سياسية داروينية. لنتأمّل على سبيل المثال سوريا، فلقد كانت حدودها مفتوحة في وجه كل العرب من دون استثناء، وكان ثمن الرغيف هناك هو الأخفض ثمنا في العالم، التغطية الصحية والعلاج على بطاقة الهوية، التعليم مجاني، منسوب الأمان لعله الرابع في التصنيف العالمي، ماذا ترون اليوم؟
س٦/ لماذا تصاعد الإرهاب باسم الإسلام؟ وهل استطاع الأزهر أن يرتقي بالفكر الإسلامي لصدّ حملات التشويه والكراهية ضد الدين الإسلامي والمسلمين؟
د.هاني: هذه قضية بالغة التعقيد. ولقد واكبتُ ميلاد هذه الظاهرة التي كانت مقدّمة ضرورية لبروز ظاهرة الإسلاموفوبيا. التسهيلات التي مُنحت في وقت من الأوقات للتّطرفات الدينية، فاقت تلك التي تمنح للإسلام التّقدُّمي. إنهم بقايا الحرب الباردة والجهاد الأفغاني. التخلي عن هؤلاء البقايا فجأة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والاستغناء عن أدوارهم، ساهم في انبعاث التطرّف من جديد.
وليس في إمكان الأزهر، رغم محاولات كثيرة منه، أن يقوم وحده بهذا الدور. كما كانت محاولات من مراكز استحدثت إبان التصعيد، بعضها جادّ في محاولته وبعضها ملتبس في مهامّه. فالمعضلة تتعلق حقا بصدام تصورات وثقافات وأفهام وخوارزميات، وباتت الثقافة هي الأخرى مسرحا لحروب قادمة لا محالة. لقد أصبحنا أمام فوضى عارمة استطاعت أن تفتح الحقل الديني أمام أنواع من التّفاهة التي أريد لها أن تكون بديلا عن الإرهاب. لا زلنا إذن بين فكي الإرهاب والتّفاهة، أمّا خطاب التّرقّي بالفكر الإسلامي فهو الحلقة الأضعف، وهذا ما يجعل الوضع غير طبيعي. ويبدو أنّ البيئة الدولية اليوم لا تساعد على دحر التطرف الدّيني، بل تغدّيه عبر خطاب التمييز والاستفزاز وتهديد المنظومة القيمية. لا يمكن حلّ معضلة التطرف الديني بتفجير القانون الأخلاقي؛ فهذا يجعل العالم يقطع مع اللاّهوت والتنوير في آن معا.