دروس مستفادة من الانتخابات الهندية ورسائل تنبيه للحفاظ على الديمقراطية

    دروس مستفادة من الانتخابات الهندية ورسائل تنبيه للحفاظ على الديمقراطية

     الدكتور وائل عواد*

    انتهت عملية فرز الأصوات في الانتخابات البرلمانية الثامنة عشرة في شبه القارة الهندية، التي تضم برلمانًا يتألف من 543 مقعدًا، وأظهرت النتائج فوزًا “منقوصًا” لحزب بهارتيا جاناتا القومي الهندوسي وحلفائه، جيث نال التاحلف الوطني الديمقراطي على 293 مقعد وتؤهله لتشكيل الحكومة ، وإن كانت على عكس توقعات استطلاعات الرأي التي رجحت فوزًا “ساحقًا”. وفي المقابل، حصل تحالف حزب المؤتمر الوطني على نسبة جيدة في البرلمان 232 مقعد ، لكنها لن تؤهله لتشكيل حكومة مركزية، وبالتالي كانت هزيمة بطعم الانتصارويُحتفل الآن بالنتائج.

    انخفضت نسبة المقاعد للحزب الحاكم بهارتيا جاناتا ، الذي يتزعمه مودي إلى 63 مقعدًا عما كانت عليه في انتخابات عام 2019، حيث حصل آنذاك على 303 مقعد مقابل 240 مقعد في هذه الانتخابات.من ناحية أخرى، حسّن حزب المؤتمر الوطني من رصيده من المقاعد، حيث حاز على 99 مقعدًا بزيادة 47 مقعد ، مقارنةً بـ52 مقعدًا في الانتخابات السابقة. وكانت الخسارة الأكبر لحزب بهارتيا في ولايتين هامتين ضمن الحزام الهندوسي، وهما ولايتا أوتار براديش وراجستهان وسط البلاد، حيث خسر الحزب نسبة لابأس بها من المقاعد. وسيطر العامل الطبقي على مجرى الانتخابات، ولم تكن المشاعر الدينية هي العامل الرئيسي كما توقع القادة الهندوس، بعد أن حاول القادة السياسيون التلاعب بصوت الناخب الهندي ومشاعره وإيمانه. وفاجأ الجميع انتكاسة الحزب في معاقله، حيث خسر مقعدًا في منطقة مدينة أيوديها التي شهدت إنشاء معبد اللورد رام على أنقاض مسجد بابري الذي دمر على أيدي متطرفين هندوس في 6 ديسمبر 1992، وكان تدشين المعبد المبكر، قبيل الانتخابات، من قبل رئيس الوزراء ناريندرا مودي بالذات، يهدف لجذب أكبر عدد من الأصوات لصالح الحزب، باعتبار أنه حقق أحد وعوده الانتخابية. وفشلت محاولات الحزب في التغلغل في ولاية البنغال الغربية، وكانت مخيبة للآمال، بينما اخترق الولايات الجنوبية وسجل فوزًا متواضعًا.وأعادت الأحزاب الإقليمية التوازن السياسي للبلاد، وبدأت الأحزاب المركزية بمغازلتها والتقرب منها، وسوف تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل أي حكومة مركزية. فقد فاز كل من تيليغو ديسام (حزب إقليمي) في ولاية أندرا براديش جنوب الهند وحزب جاناتا دال المتحد في ولاية بيهار الشرقية بنسبة جيدة من المقاعد التي ستسمح لهما بلعب دور الملك في تشكيل الحكومة المقبلة، وهما حليفان هامان ضمن التحالف الوطني الذي يقوده حزب بهارتيا جاناتا. ولكن في عالم السياسة كل الاحتمالات مفتوحة، ولو أراد هذان الحزبان الانضمام إلى تحالف الهند بقيادة حزب المؤتمر الوطني، فهذا سيمنع حزب بهارتيا من تشكيل الحكومة. ولكن يتوجب على حزب المؤتمر الابتعاد عن مثل هذا السيناريو، والبقاء في المعارضة لتعزيز دوره وإعادة ثقة الشعب به وبزعيمه راهول غاندي الذي حاول تنظيم صفوف الحزب ، بعد أن وضع استراتيجية ناجحة مع قادة الحزب، وخاض حملة انتخابية قاسية وجال في معظم أرجاء البلاد لكسب ثقة الشعب بحزب المؤتمر الذي حكم البلاد لأكثر من خمسين عامًا منذ استقلال الهند عام 1947.

    الدروس المستفادة من الانتخابات الهندية تكمن في أنها انتصار للديمقراطية والسلوك المدني.

     بغض النظر عن النتائج، فإن هذه الانتخابات  البرلمانية تعد تاريخية بكل معنى الكلمة في تاريخ الهند السياسي. يقف الشعب الهندي في قلب العملية الديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية والاجتماعية، وهو جوهر قوة الهند وعظمتها. تنبض الديمقراطية الهندية بالحياة، وهي فعّالة ومتجددة، ولا بد للأحزاب الإقليمية من أن تلعب دورًا رئيسيًا في الحكم الفيدرالي. ولا يمكن للحكومة الجديدة أن تتجاهل تطلعات الشعب، بل يجب عليها أن تعمل على تحقيقها، من خلال تحسين مستوى المعيشة وتوفير الأمن والاستقرار والوظائف ومكافحة التضخم والفساد والنزعات الطائفية وغيرها من القضايا الاجتماعية.

    ويتوجب على حزب بهارتيا جاناتا، الذي تعرض لهزيمة سياسية، أن يكون أكثر عقلانية وتصالحياً، وأن يبتعد عن المواجهة والأجندة السياسية الخاصة به، التي سيطرت على إدارة الدولة طوال العقد الفائت من حكمه. فقد اتهم الحزب بالاستغلال السياسي للوكالات الحكومية لمطاردة خصومه وسجنهم بتهمة الفساد والرشاوى، وسبب في انشقاقات في صفوف الأحزاب السياسية المعارضة، وضم العديد منها لصالحه، وحاول تهميش حزب المؤتمر الوطني من خلال تجميد أرصدته قبيل الانتخابات، والتدخل في القضاء ومحاربة المعارضين له، وكبح نشاط وسائل الإعلام والإعلاميين المعارضين لأجندته اليمينية.”

    هذه رسائل تنبيه من الناخب الهندي للحفاظ على نظام ديمقراطي فيدرالي والابتعاد عن سياسة الاستقطاب وخطاب الكراهية وزعامة “القائد الديكتاتوري”. فشلت معظم وسائل الإعلام الهندية في إظهار الصورة الحقيقية للواقع السياسي وتأثرت بمالكيها في تقييم نتائج الانتخابات، وكانت تميل إلى الحزب الحاكم. وبدأت تتدريجياً تعيد خطابها الإعلامي وتخفف من حدة هجومها على المعارضة، مما يعكس تطورًا سلبيًا على مستقبل حرية الإعلام والتعبير في الهند، باعتبار أن الإعلام أحد أهم أعمدة الديمقراطية الرئيسية والحكم النزيه.

    الأسواق المالية كانت متقلبة؛ فقد ارتفعت الأسهم بعد استطلاعات الرأي التي كانت تميل لصالح الحزب الحاكم على أنه سيحقق الأغلبية المطلقة في البرلمان، وعادت وانهارت بشكل ملحوظ مع إعلان النتائج، مما سبب خسائر مالية فادحة.

    وبانتظار ما ستتمخض عنه المناورات السياسية والاجتماعات والتحضيرات للاحتفالات بتشكيل الحكومة الجديدة في التاسع من الشهر الجاري، فإننا يمكننا القول بأن حزب بهارتيا جاناتا وحلفائه ،فازوا لكنه انتصار منقوص وباهظ الثمن، وحزب المؤتمر الوطني وحلفاؤه خسروا لكنها خسارة بنشوة الانتصار. والأحزاب الإقليمية أعادت هيبتها وأصبحت محورية في عصر التحالفات والحكم الفيدرالي.

    حاليا” الشعب يحتفل في جميع طوائفه، وحتى المفوضية العليا للانتخابات، تنفست الصعداء، فلم يتهمها أحد بالتلاعب بأجهزة التصويت الإلكترونية التي كانت محور جدل طيلة فترة الحملات الانتخابية.

    في الانتخابات الهندية، الفائز ليس فقط حزب بهارتيا جاناتا وحلفاؤه، وإنما الديمقراطية نفسها والشعب الهندي. هذه الانتخابات تعد انتصارًا للعملية الديمقراطية وللشعب الذي أظهر إرادته ومشاركته في اختيار ممثليه وتحديد مسار مستقبله. ومع ذلك، يمكن القول بأن حزب بهارتيا جاناتا وحلفاؤه قد فازوا بأكثرية المقاعد في البرلمان، ولكن هذا الفوز كان منقوصًا مقارنة بالتوقعات السابقة، مما يجعل الانتصار باهتًا وباهظ الثمن.

    المنتصر هو الشعب الهندي، والديمقراطية ما زالت بخير.”

    كاتب صحفي سوري مقيم في الهند

    انخفضت نسبة المقاعد للحزب الحاكم بهارتيا جاناتا ، الذي يتزعمه مودي إلى 63 مقعدًا عما كانت عليه في انتخابات عام 2019، حيث حصل آنذاك على 303 مقعد مقابل 240 مقعد في هذه الانتخابات.من ناحية أخرى، حسّن حزب المؤتمر الوطني من رصيده من المقاعد، حيث حاز على 99 مقعدًا بزيادة 47 مقعد ، مقارنةً بـ52 مقعدًا في الانتخابات السابقة. وكانت الخسارة الأكبر لحزب بهارتيا في ولايتين هامتين ضمن الحزام الهندوسي، وهما ولايتا أوتار براديش وراجستهان وسط البلاد، حيث خسر الحزب نسبة لابأس بها من المقاعد. وسيطر العامل الطبقي على مجرى الانتخابات، ولم تكن المشاعر الدينية هي العامل الرئيسي كما توقع القادة الهندوس، بعد أن حاول القادة السياسيون التلاعب بصوت الناخب الهندي ومشاعره وإيمانه. وفاجأ الجميع انتكاسة الحزب في معاقله، حيث خسر مقعدًا في منطقة مدينة أيوديها التي شهدت إنشاء معبد اللورد رام على أنقاض مسجد بابري الذي دمر على أيدي متطرفين هندوس في 6 ديسمبر 1992، وكان تدشين المعبد المبكر، قبيل الانتخابات، من قبل رئيس الوزراء ناريندرا مودي بالذات، يهدف لجذب أكبر عدد من الأصوات لصالح الحزب، باعتبار أنه حقق أحد وعوده الانتخابية. وفشلت محاولات الحزب في التغلغل في ولاية البنغال الغربية، وكانت مخيبة للآمال، بينما اخترق الولايات الجنوبية وسجل فوزًا متواضعًا.وأعادت الأحزاب الإقليمية التوازن السياسي للبلاد، وبدأت الأحزاب المركزية بمغازلتها والتقرب منها، وسوف تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل أي حكومة مركزية. فقد فاز كل من تيليغو ديسام (حزب إقليمي) في ولاية أندرا براديش جنوب الهند وحزب جاناتا دال المتحد في ولاية بيهار الشرقية بنسبة جيدة من المقاعد التي ستسمح لهما بلعب دور الملك في تشكيل الحكومة المقبلة، وهما حليفان هامان ضمن التحالف الوطني الذي يقوده حزب بهارتيا جاناتا. ولكن في عالم السياسة كل الاحتمالات مفتوحة، ولو أراد هذان الحزبان الانضمام إلى تحالف الهند بقيادة حزب المؤتمر الوطني، فهذا سيمنع حزب بهارتيا من تشكيل الحكومة. ولكن يتوجب على حزب المؤتمر الابتعاد عن مثل هذا السيناريو، والبقاء في المعارضة لتعزيز دوره وإعادة ثقة الشعب به وبزعيمه راهول غاندي الذي حاول تنظيم صفوف الحزب ، بعد أن وضع استراتيجية ناجحة مع قادة الحزب، وخاض حملة انتخابية قاسية وجال في معظم أرجاء البلاد لكسب ثقة الشعب بحزب المؤتمر الذي حكم البلاد لأكثر من خمسين عامًا منذ استقلال الهند عام 1947.

    الدروس المستفادة من الانتخابات الهندية تكمن في أنها انتصار للديمقراطية والسلوك المدني.

     بغض النظر عن النتائج، فإن هذه الانتخابات  البرلمانية تعد تاريخية بكل معنى الكلمة في تاريخ الهند السياسي. يقف الشعب الهندي في قلب العملية الديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية والاجتماعية، وهو جوهر قوة الهند وعظمتها. تنبض الديمقراطية الهندية بالحياة، وهي فعّالة ومتجددة، ولا بد للأحزاب الإقليمية من أن تلعب دورًا رئيسيًا في الحكم الفيدرالي. ولا يمكن للحكومة الجديدة أن تتجاهل تطلعات الشعب، بل يجب عليها أن تعمل على تحقيقها، من خلال تحسين مستوى المعيشة وتوفير الأمن والاستقرار والوظائف ومكافحة التضخم والفساد والنزعات الطائفية وغيرها من القضايا الاجتماعية.

    ويتوجب على حزب بهارتيا جاناتا، الذي تعرض لهزيمة سياسية، أن يكون أكثر عقلانية وتصالحياً، وأن يبتعد عن المواجهة والأجندة السياسية الخاصة به، التي سيطرت على إدارة الدولة طوال العقد الفائت من حكمه. فقد اتهم الحزب بالاستغلال السياسي للوكالات الحكومية لمطاردة خصومه وسجنهم بتهمة الفساد والرشاوى، وسبب في انشقاقات في صفوف الأحزاب السياسية المعارضة، وضم العديد منها لصالحه، وحاول تهميش حزب المؤتمر الوطني من خلال تجميد أرصدته قبيل الانتخابات، والتدخل في القضاء ومحاربة المعارضين له، وكبح نشاط وسائل الإعلام والإعلاميين المعارضين لأجندته اليمينية.”

    هذه رسائل تنبيه من الناخب الهندي للحفاظ على نظام ديمقراطي فيدرالي والابتعاد عن سياسة الاستقطاب وخطاب الكراهية وزعامة “القائد الديكتاتوري”. فشلت معظم وسائل الإعلام الهندية في إظهار الصورة الحقيقية للواقع السياسي وتأثرت بمالكيها في تقييم نتائج الانتخابات، وكانت تميل إلى الحزب الحاكم. وبدأت تتدريجياً تعيد خطابها الإعلامي وتخفف من حدة هجومها على المعارضة، مما يعكس تطورًا سلبيًا على مستقبل حرية الإعلام والتعبير في الهند، باعتبار أن الإعلام أحد أهم أعمدة الديمقراطية الرئيسية والحكم النزيه.

    الأسواق المالية كانت متقلبة؛ فقد ارتفعت الأسهم بعد استطلاعات الرأي التي كانت تميل لصالح الحزب الحاكم على أنه سيحقق الأغلبية المطلقة في البرلمان، وعادت وانهارت بشكل ملحوظ مع إعلان النتائج، مما سبب خسائر مالية فادحة.

    وبانتظار ما ستتمخض عنه المناورات السياسية والاجتماعات والتحضيرات للاحتفالات بتشكيل الحكومة الجديدة في التاسع من الشهر الجاري، فإننا يمكننا القول بأن حزب بهارتيا جاناتا وحلفائه ،فازوا لكنه انتصار منقوص وباهظ الثمن، وحزب المؤتمر الوطني وحلفاؤه خسروا لكنها خسارة بنشوة الانتصار. والأحزاب الإقليمية أعادت هيبتها وأصبحت محورية في عصر التحالفات والحكم الفيدرالي.

    حاليا” الشعب يحتفل في جميع طوائفه، وحتى المفوضية العليا للانتخابات، تنفست الصعداء، فلم يتهمها أحد بالتلاعب بأجهزة التصويت الإلكترونية التي كانت محور جدل طيلة فترة الحملات الانتخابية.

    في الانتخابات الهندية، الفائز ليس فقط حزب بهارتيا جاناتا وحلفاؤه، وإنما الديمقراطية نفسها والشعب الهندي. هذه الانتخابات تعد انتصارًا للعملية الديمقراطية وللشعب الذي أظهر إرادته ومشاركته في اختيار ممثليه وتحديد مسار مستقبله. ومع ذلك، يمكن القول بأن حزب بهارتيا جاناتا وحلفاؤه قد فازوا بأكثرية المقاعد في البرلمان، ولكن هذا الفوز كان منقوصًا مقارنة بالتوقعات السابقة، مما يجعل الانتصار باهتًا وباهظ الثمن.

    المنتصر هو الشعب الهندي، والديمقراطية ما زالت بخير.”

    *كاتب صحفي سوري مقيم في الهند 

    Please publish modules in offcanvas position.