الصراع الحدودي الثقافي بين كمبوديا وتايلند: بين  الإرث الاستعماري والهوية الوطنية

    الصراع الحدودي الثقافي بين كمبوديا وتايلند: بين الإرث الاستعماري والهوية الوطنية

    الدكتور وائل عواد

    يقف معبد “برياه فيهير” بإطلالة شامخة على قمة جبلية تُشرف على سهول كمبوديا الشمالية، كأحد أبرز المعالم المعمارية لحضارة الخمير القديمة. ويكشف النزاع الكمبودي–التايلندي حول المعبد عن التداخل بين الحدود السياسية والرمزية، واستمرار آثار الاستعمار في تشكيل الواقع الجيوسياسي للدول الناشئة. كما يُسلّط الضوء على دور القانون الدولي ومحدوديته، وأهمية بناء أطر إقليمية أكثر فاعلية في إدارة النزاعات الحدودية.

    الخلفية التاريخية للنزاع وأثر الإرث الاستعماري

    تعود جذور النزاع إلى بدايات القرن العشرين، حين كانت كمبوديا تحت الحماية الفرنسية، بينما احتفظت تايلند (سيام سابقًا) باستقلالها النسبي. في عام 1904، وُقّعت اتفاقية لترسيم الحدود بين البلدين، أعقبها إصدار خرائط فرنسية عام 1907 بموجب المعاهدة الفرنسية-السيامية. ووفق هذه الخرائط، تم إدراج معبد برياه فيهير ضمن الحدود الكمبودية. لم تعترض تايلند رسميًا في ذلك الوقت، لكنها عادت لاحقًا لتؤكد أن المعبد يقع ضمن أراضيها.

    قد يبدو الصراع بين الجارتين صراعًا حضاريًا، لكنه في حقيقته نزاع ثقافي حول رمز تاريخي تتقاطع فيه حضارتان بوذيتان متقاربـتان. فرغم مرور أكثر من قرن على ترسيم الحدود، لا يزال معبد برياه فيهير موضع نزاع بين الدولتين. ففي كمبوديا، يُعدّ المعبد شهادة حية على تاريخ وحضارة الخمير، بينما يُنظر إليه في تايلند كامتداد لتراثها الثقافي البوذي. وهكذا تحوّل التراث الثقافي إلى أداة للخطاب السيادي والسياسي، خصوصًا في فترات الأزمات الداخلية، حيث تُوظف الرمزية الوطنية للمعبد في تأجيج المشاعر القومية.

    تقدمت كمبوديا بطلب إلى محكمة العدل الدولية للبت في سيادتها على أربع مناطق حدودية “حساسة”، من ضمنها المعابد المحيطة ببرياه فيهير، مثل تامون ثوم وتا كرابي. وجاء القرار لصالح كمبوديا، وهو ما قوبل بامتعاض تايلندي رغم القبول الرسمي. وجددت كمبوديا طلب التفسير في عام 2013، مؤكدة سيادتها على الأراضي المجاورة للمعبد، إلا أن تايلند اعتبرت اللجوء إلى المحكمة خطوة غير ودية، تتنافى مع مبدأ حسن الجوار، لا سيما في ظل التوترات السياسية الداخلية.

    استخدام الصراع الخارجي لصرف الأنظار عن الأزمات الداخلية

    في كل من كمبوديا وتايلند، استُخدم النزاع السياسي والإعلامي حول المعبد كأداة لحشد الدعم الشعبي وتوحيد الصف الداخلي خلال فترات الأزمات:

    • في كمبوديا، استخدم حزب الشعب الكمبودي الحاكم، بقيادة هون سين، النزاع لتغذية النزعة القومية وتعزيز الشرعية السياسية، خصوصًا خلال الانتخابات أو أثناء الضغوط الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.

    • في تايلند، لجأت الحكومات، سواء المنتخبة أو العسكرية، إلى تأجيج النزاع لتقوية الخطاب القومي، في ظل انقسامات داخلية حادة بين “القمصان الحمر” و”القمصان الصفر”، ومحاولات لكسب التأييد الشعبي في أوقات الاضطراب السياسي والانقلابات العسكرية.

    رغم محاولات الجانبين تهدئة الخلافات ورفع مستوى العلاقات إلى شراكة استراتيجية، لا يزال النزاع الحدودي حول المعبد عاملًا حساسًا. فقد شهدت منطقة المثلث الزمردي مناوشات دامية أدت إلى سقوط قتلى وجرحى، مما استدعى رفع مستوى الجاهزية العسكرية على طول الحدود المشتركة البالغة 835 كيلومترًا.

    وقد أعاد قرار اليونسكو عام 2008 بتسجيل المعبد ضمن قائمة التراث العالمي تحت السيادة الكمبودية النزاع إلى الواجهة، إذ اعتبرته تايلند تعديًا على سيادتها. ومنذ ذلك الحين، ظهرت أنماط جديدة من الصراع تتجاوز المواجهة العسكرية، وتعكس صدامات ناعمة على مستوى الرمزية والمكانة الدولية.

    إمكانات التسوية والحلول الدبلوماسية

    رغم حساسية القضية، تبرز عدد من المسارات التي قد تسهم في نزع فتيل التوتر:

    1. إدارة مشتركة للموقع الأثري تحت إشراف اليونسكو، بما يُحوّل المعبد إلى منطقة تعاون ثقافي بدلًا من ساحة نزاع.

    2. تشجيع السياحة العابرة للحدود، من خلال آلية تتيح للسياح الوصول إلى المعبد من الجانبين، مما يربط التهدئة بالمصالح الاقتصادية المشتركة.

    3. دبلوماسية ثقافية وشعبية عبر مؤسسات أكاديمية ومدنية من الطرفين، تسعى لتفكيك الخطابات القومية المتشنجة، وتعزيز الوعي بالتراث كقيمة إنسانية مشتركة.

    النزاعات الداخلية في كمبوديا وتايلند ليست مجرد خلفية سياقية للنزاع، بل تُعدّ أحد أبرز دوافعه. فعندما تضيق الخيارات أمام الحكومات داخليًا، يصبح التصعيد الخارجي أداة للهرب إلى الأمام، وتغدو الهوية الوطنية ورقة يُعاد تشكيلها في خضم الصراع، لا سيما حين يتعلق الأمر بمواقع ذات رمزية حضارية وتاريخية.

    خاتمة

    يبقى معبد برياه فيهير، رغم تاريخه الديني العريق، ضحية صراع متعدد الأبعاد: جغرافي، ثقافي، سياسي، ودولي. وقد بات يُجسّد التحديات التي تواجه الدول الخارجة من الإرث الاستعماري، في محاولتها لتثبيت هويتها، وإعادة ترسيم سرديتها التاريخية، وتأكيد سيادتها الوطنية. إن الحروب القادمة – كما يظهر في هذا النموذج – قد لا تُخاض بالسلاح فقط، بل أيضًا على صفحات التاريخ، وفي قاعات المحاكم الدولية، وعلى أرضية الذاكرة الجماعية لشعوب تبحث عن مكانها في خريطة العالم الحديث.

    Please publish modules in offcanvas position.