ربّ ضارّة نافعة: العلاقات الهندية – الصينية تعود إلى المسار الصحيح

    ربّ ضارّة نافعة: العلاقات الهندية – الصينية تعود إلى المسار الصحيح

    الدكتور وائل عواد

    يستعد رئيس الوزراء الهندي لزيارة الصين نهاية الشهر الجاري، للمشاركة في قمة منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) في مدينة تيانجين، في خطوة تعكس تحوّلًا لافتًا في مقاربة نيودلهي تجاه جارتها الشرقية. فالزيارة، التي تأتي في توقيت دقيق، تحمل رسائل متعددة، أبرزها رغبة الهند في إعادة تطبيع العلاقات مع الصين والانخراط في مسار جديد من التعاون الاقتصادي والتجاري.

    تُظهر التحولات الأخيرة في السياسة الهندية أن نيودلهي لم تعد أسيرة الاصطفافات الضيقة ولا رهينة للضغوط الغربية، بل باتت تتحرك بوعي استراتيجي أوسع يضع مصالحها القومية فوق كل اعتبار. زيارة رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى الصين تجسّد هذا التحول، وتؤكد أن الهند قادرة على رسم مساراتها بعيدًا عن ثنائية “التبعية” أو “المواجهة”.

    فالهند، وهي قوة نووية واقتصاد صاعد، تدرك أن موقعها الجغرافي وحجمها الديمغرافي يفرضان عليها أن تكون لاعبًا أساسيًا لا تابعًا. ومن هذا المنطلق، لم تعد ترى في الصين مجرد خصم حدودي، بل شريكًا محتملًا في صياغة مستقبل إقليمي أكثر توازنًا، خصوصًا في ظل التحديات المشتركة مثل الأمن الغذائي، الطاقة، والتغير المناخي.

    الأزمة الحدودية عام 2020، التي كادت أن تُدخل العلاقات في نفق مظلم، تحولت اليوم إلى دافع لمراجعة الأولويات. ورغم محاولات واشنطن زرع إسفين بين عملاقي آسيا واستغلال لحظات التوتر لدفع الهند إلى صفّها في مواجهة الصين، فإن نيودلهي وبكين أظهرتا براغماتية عالية في إدارة خلافاتهما، خصوصًا أن كليهما يدرك أن الانجرار وراء التصعيد سيضر بمسار التنمية الداخلية وبالتوازنات الإقليمية.

    واللافت أن نيودلهي وبكين نجحتا، عبر قمم ثنائية ومبادرات ضمن “بريكس” و”شنغهاي”، في إعادة بناء أرضية مشتركة للحوار. هذا لا يعني تجاهل الخلافات، بل إدارتها ببراغماتية تسمح بفتح ملفات التعاون الاقتصادي والتجاري.

    يعكس هذا التوجه ثقة هندية متزايدة بالذات، واستعدادًا لتحويل التحديات إلى فرص. فالهند لا تدخل في التقارب مع الصين من موقع ضعف، بل من موقع وعي بأن مستقبل آسيا يجب أن يُبنى بأيدي أبنائها، وبأن مصالحها القومية تتحقق عندما تكون جزءًا من تكتل صاعد، لا مجرد ورقة بيد قوى أخرى.

    تتقاسم الدولتان حدودًا تمتد لأكثر من 3488 كيلومترًا (حسب المصادر الهندية و2000 كم حسب المصادر الصينية)، وتربطهما عضوية أساسية في كلٍّ من منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس، إلى جانب روسيا وإيران ودول آسيا الوسطى. هذه التكتلات لم تعد مجرد أطر شكلية، بل تحولت إلى منصات عملية للتنسيق في الملفات الأمنية والاقتصادية. فـ”بريكس” مثلًا باتت قناة مهمة للهند والصين لتجاوز الخلافات الثنائية والانخراط في مشاريع مشتركة، بدءًا من تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي وصولًا إلى الاستثمار في البنية التحتية والطاقة والنقل، فضلًا عن توسيع الشراكات مع دول الجنوب الباحثة عن بدائل للتبعية الغربية.

    وعليه، فإن التقلبات الجيوسياسية المتسارعة، وتراجع الهيمنة الأمريكية، وعودة سياسة التعريفات الجمركية كأداة صراع اقتصادي، كلها عوامل تدفع الهند والصين إلى التقارب أكثر فأكثر. والنتيجة المتوقعة ليست ولادة نظام بديل بالضرورة، بل إرساء توازنات جديدة تُفضي إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث تشكل التكتلات الإقليمية مثل “بريكس” و”شنغهاي” أدوات لتخفيف الاضطراب وتثبيت موقع القوى الصاعدة في خريطة النفوذ العالمي.

    السيناريوهات المستقبلية للعلاقات الهندية–الصينية حتى 2035

    1. سيناريو التعاون الاستراتيجي

    في حال استمرار مسار التهدئة وتوسع التعاون في إطار بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، قد نرى بحلول 2035 شراكة استراتيجية بين نيودلهي وبكين تقوم على:

    التكامل الاقتصادي: استثمارات صينية في البنية التحتية والطاقة بالهند، وتوسع الهند في السوق الصينية عبر قطاع الخدمات والتكنولوجيا.

    تقليل التبعية للدولار: تنامي التبادل التجاري بالعملات المحلية أو عبر عملة بريكس الموحدة.

    إدارة الخلافات الحدودية: عبر آليات دبلوماسية تمنع انفجارها وتحافظ على “السلام البارد”.

    بناء محور جنوب–جنوب: يضع الهند والصين معًا في مقدمة الدول الصاعدة مقابل تراجع الهيمنة الأمريكية.

    النتيجة المتوقعة: صعود “ترويكا آسيوية” (الهند–الصين–روسيا) كفاعل رئيسي في رسم ملامح النظام العالمي المتعدد الأقطاب.

    1. سيناريو التنافس المُدار

    وهو الأكثر ترجيحًا في المدى المنظور. فالهند ستظل متحفظة من التمدد الصيني، وستحاول موازنة علاقاتها بين الغرب وبكين، عبر:

    • التعاون الاقتصادي الانتقائي مع الصين في مجالات الطاقة والبنية التحتية.
    • التحالفات الأمنية مع الغرب (كواد، شراكة مع الولايات المتحدة) للحد من النفوذ الصيني في المحيط الهندي.
    • التنسيق التكتيكي مع روسيا كوسيط يخفف من التوترات مع الصين.
    • التنافس على النفوذ في آسيا وإفريقيا، حيث يسعى كل طرف لتعزيز موقعه في الأسواق والموارد.

     النتيجة المتوقعة: علاقة “شراكة–خصومة”، حيث لا يصل الخلاف إلى صراع مفتوح، ولا يتحول التعاون إلى تحالف كامل.

    1. سيناريو الصراع المفتوح

    إذا فشلت آليات التهدئة وتجدّد التصعيد الحدودي أو اشتد التنافس على النفوذ في المحيطين الهندي والهادئ، قد تنزلق العلاقات إلى مواجهة أكثر خطورة:

    • تصعيد عسكري في الهيمالايا يعيد أجواء ما بعد 2020.
    • اصطفاف هندي–أمريكي بشكل أوضح ضمن استراتيجية تطويق الصين.
    • تراجع دور بريكس وشنغهاي كمظلات جامعة، وتحولهما إلى منصات شكلية.
    • انقسام الجنوب العالمي بين محور صيني–روسي وآخر هندي–غربي.

     النتيجة المتوقعة: إضعاف موقع الهند والصين معًا في النظام العالمي الجديد، وفتح المجال لقوى أخرى مثل تركيا والبرازيل وإيران للعب أدوار موازية.

     

    هل تفتح زيارة مودي الباب أمام ترويكا آسيوية جديدة؟

    تمثل العلاقات الهندية–الصينية أحد أعمدة التوازن الدولي المقبل. فبينما تدفع الجغرافيا والتاريخ باتجاه التوتر، تفرض التحولات الاقتصادية والجيوسياسية نوعًا من البراغماتية المشتركة التي تجعل من “التنافس المُدار” السيناريو الأكثر واقعية حتى 2035. ومع ذلك، فإن أي خطأ في الحسابات أو تغيّر في سياسات واشنطن قد يعيد المنطقة إلى مربع الصراع المفتوح.

    زيارة مودي المرتقبة إلى بكين ليست مجرد محطة بروتوكولية، بل علامة على دخول العلاقات الهندية–الصينية مسارًا أكثر نضجًا. وربما تفتح الطريق أمام حقبة جديدة من التعاون الإقليمي، تُثبت أن آسيا قادرة على صياغة مستقبلها بنفسها، بعيدًا عن إملاءات الآخرين. كما قد تؤكد أن الصراع ليس قدرًا محتومًا، وأنه في السياسة كما في الح

     

    Please publish modules in offcanvas position.