بؤرة التوتر بين باكستان وأفغانستان: الجذور.. المخاطر.. والتداعيات الإقليمية

    بؤرة التوتر بين باكستان وأفغانستان: الجذور.. المخاطر.. والتداعيات الإقليمية

    الدكتور وائل عواد

    سارعت كلٌّ من قطر والسعودية وإيران إلى التحرك الدبلوماسي العاجل عقب الاشتباكات الدامية بين باكستان وأفغانستان، في محاولة لاحتواء الأزمة ووقف المواجهات الحدودية بين الدولتين الإسلاميتين. ويأتي هذا التحرك في وقتٍ تشهد فيه المنطقة تحولاتٍ جيوسياسية متسارعة منذ عودة حركة طالبان إلى السلطة عام 2021، حيث تحاول الحركة فرض سيادتها واستقلالها عن النفوذ الباكستاني من خلال إحياء المشاعر القبلية والعرقية بين قبائل البشتون على جانبي الحدود.

    نادرًا ما يكون اندلاع اشتباكات مفاجئة على طول الحدود الباكستانية الأفغانية، متسمة بإطلاق نار عبر الحدود، وعمليات طرد، واتهامات دبلوماسية متبادلة، حادثًا معزولًا. بل إن مثل هذه الأحداث تُشير إلى توترات هيكلية أعمق عقب عودة حركة طالبان إلى السلطة بعد “الانسحاب المفاجئ” للقوات الأمريكية والتخلي عن كميات هائلة من العتاد تجاوز مليارات الدولارات. ومن السذاجة أيضا” الاعتقاد بان الولايات المتحدة قد منيت بهزيمة في افغانستان بعد ان اسقطت حركة طالبان عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر أيلول و أنفقت تريليون دولارعلى مدى عقدين من الزمن وسحبت قواتها لتسلم حركة طالبان الحكم من جديد.فقد عودتنا السياسة الامريكية على خلق الأزمات وافتعال الحروب ومن ثم ادارتها.  لذا، تُشير المناوشات الحالية إلى مظالم تاريخية، وسياسات داخلية، وتنافس إقليمي، ورؤى استراتيجية متضاربة لجنوب ووسط آسيا. ولا تزال أفغانستان محور اهتمام القوى الإقليمية والدولية، نظرًا لموقعها الجيوسياسي الذي يتيح الوصول إلى دول آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز. ومع تصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين، يظهر الخلاف حول النفوذ في كابول كأحد فصول هذا الصراع الأكبر على خريطة الطاقة والطرق التجارية المستقبلية.

    العوامل التاريخية والمباشرة

     من المعروف أن حركة طالبان ترعرعت في كنف الحكومات الباكستانية المتعاقبة وتحولت إلى مركز للجهاد الأمريكي العالمي ،أبان الاحتلال السوفييتي لأفغانستان . وعلى الرغم من التقارب الشديد بينهما إلا أن خط دوراند الجدودي بينهما مايزال جرحًا حيًا: فهو غير معترف به دوليًا من قِبل أفغانستان كحدود رسمية، ترتبط الجارتان بحدود تتجاوز ٢٦٤٠ كم يتخللها الشبكات القبلية وتقع حوادث متكررة من خلال مطاردة المسلحين عبر الحدود، تؤدي إلى سقوط ضحايا من المدنيين، وما يليها من توغلات عقابية تؤدي بشكل روتيني إلى إشعال مواجهات أكبر.

    تسارعت الأحداث الجيوسياسية في المنطقة بشكل لافت، وعادت حركة طالبان إلى السلطة بثوب جديد، تحاول من خلاله فرض سيادتها واستقلال قرارها عن النفوذ الباكستاني. ولتحقيق ذلك، تعمل على إحياء المشاعر القبلية والعرقية بين قبائل الباشتون على جانبي الحدود الباكستانية–الأفغانية. يأتي هذا في ظل تحالفات إقليمية جديدة تشهدها كابول مع الولايات المتحدة والهند، مقابل تصاعد التوتر مع باكستان والصين، اللتين تسعيان إلى فتح الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني–الأفغاني، في وقت تعمل فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون على الحد من التمدد الصيني في قلب آسيا.

    شهد المشهد ما بعد عام 2021 انتشارًا للجماعات المسلحة، وتحولًا في الولاءات، وتغييرات في القيادة. لطالما قامت أجهزة الأمن الباكستانية بتنمية علاقات مع الجهات الفاعلة الإسلامية الأفغانية من أجل العمق الاستراتيجي؛ غيرت عودة طالبان هذه الروابط ولكنها لم تمحها. تستخدم الفصائل المسلحة (بعضها معارض لطالبان، والبعض الآخر متحالف) المناطق الحدودية التي يسهل اختراقها كملاذات آمنة، مما يؤدي إلى ردود فعل عسكرية باكستانية تمتد إلى الأراضي الأفغانية وتثير غضبًا عامًا في كابول.

    تنظر المؤسسة الأمنية الباكستانية إلى عدم الاستقرار في أفغانستان على أنه تهديد وجودي – لأنه يمكن أن ينتج موجات من التشدد داخل باكستان ولأنه يؤثر على نفوذ إسلام أباد في واشنطن ومع الشركاء الإقليميين. وعلى العكس من ذلك، تعطي طالبان الأولوية لبقاء النظام والشرعية الخارجية؛ يمكن أن يترجم هذا إلى مواقف متشددة تجاه التوغلات المزعومة أو دعم العناصر المناهضة لـ “خلق”، مما ينتج عنه ديناميكيات متبادلة.

    القوى العظمى والمنافسة الإقليمية

    في خضم هذه التطورات، تزامنت زيارة وزير الخارجية الأفغاني إلى نيودلهي مع تصاعد حدة المواجهات الحدودية بين باكستان وأفغانستان، في خطوة اعتُبرت تحوّلًا لافتًا في السياسة الإقليمية. فقد جاء الإعلان عن اعتراف الهند بحكومة طالبان، إلى جانب الدعوة المشتركة لمحاربة الإرهاب وتعزيز التعاون الأمني والإقليمي، ليشكّل صدمة في الأوساط الباكستانية. إذ سارعت إسلام آباد إلى اتهام نيودلهي بالوقوف وراء الاضطرابات الأخيرة داخل الأراضي الباكستانية، معتبرة هذا التقارب محاولة هندية لتطويقها إقليميًا وإضعاف نفوذها التقليدي داخل أفغانستان.

    يشكّل التقارب الهندي–الأفغاني المفاجئ تطورًا لافتًا في خريطة التحالفات الإقليمية، خاصة في ظل تصاعد الخلافات بين أفغانستان وباكستان من جهة، وبين كابول وبكين من جهة أخرى. هذا التقارب لا يمكن فصله عن التحولات الجيوسياسية الأوسع في المنطقة، حيث تسعى نيودلهي إلى استغلال حالة التوتر بين إسلام آباد وكابول لتثبيت نفوذها في أفغانستان، وتعزيز حضورها في قلب آسيا الوسطى، التي تعتبرها بوابة استراتيجية للوصول إلى الموارد والأسواق.

    منذ عودة طالبان إلى الحكم عام 2021، التزمت الهند سياسة الحذر والمراقبة،  التي كانت تدعم التحالف الشمالي ,لكنها لم تنقطع تمامًا عن التواصل مع القيادة الجديدة في كابول، عبر قنوات دبلوماسية وإنسانية. ومع تزايد الضغوط على الحكومة الأفغانية من باكستان والصين، وجدت طالبان في الانفتاح على الهند فرصة لتوسيع خياراتها الخارجية وكسب دعم اقتصادي وتنموي بديل عن المحاور التقليدية.

    غير أن هذا التقارب يحمل مخاطر سياسية وأمنية أيضًا، إذ قد يثير غضب إسلام آباد التي ترى في أي نفوذ هندي داخل أفغانستان تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، كما قد يدفع بكين إلى تعزيز حضورها العسكري والاقتصادي في المنطقة.

    وبذلك، يمكن القول إن التقارب الهندي–الأفغاني في هذا التوقيت لا يعكس فقط تغيّر موازين القوى في المنطقة، بل يشير إلى مرحلة جديدة من إعادة رسم التحالفات في قلب آسيا، حيث تتقاطع المصالح بين الهند والغرب من جهة، وبين الصين وباكستان من جهة أخرى.

     تُعد باكستان عقدة حاسمة في طموحات مبادرة الحزام والطريق الصينية (ولا سيما الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان). إن حاجة بكين إلى ممرات برية آمنة والاستقرار تحفز إسلام آباد على إدارة حدودها؛ ومع ذلك، فإن تفاقم عدم الاستقرار يجذب انتباه واشنطن إلى المنطقة، مما يُغذي منافسةً يمكن أن تُستغل كأداة للصراعات المحلية.

    الدوافع السياسية المحلية في كلتا العاصمتين

     يُشكل التوازن المدني والعسكري في باكستان، وهشاشتها الاقتصادية، وضغوط الأمن الداخلي، موقفًا خارجيًا حازمًا. قد تجد الجهات السياسية الفاعلة ميزة محلية في خطاب قوي أو عمل عسكري محدود، بينما يسعى الجيش إلى طمأنة دوائره الانتخابية بشأن سيطرته.

     على الجانب الأخر يجب على طالبان، التي تُكافح من أجل الاعتراف بها، والمساعدة، والسيطرة على المناطق المضطربة، أن تُظهر كلاً من القدرة والعزيمة. تسمح المواجهات مع باكستان لحكام كابول باستعراض قوتهم محليًا ووضع أنفسهم في موقع المدافعين عن السيادة الأفغانية – حتى عندما تُعقّد هذه التحركات العلاقات مع جار رئيسي.

    التصورات الاستراتيجية الخاطئة والروايات المحفوفة بالمخاطر

    تُصعّد الروايات التي تُصوّر باكستان على أنها العقل المدبر وراء الحركات المتمردة – أو التي تفترض مؤامرات استراتيجية كبرى (مثل تصوير الصراع كجزء من خطة لتحييد الموقف النووي الباكستاني أو استخدام أراضيها لعمليات طرف ثالث) – التوترات من خلال ترسيخ تصورات التهديد.التي قد تعكس  جنون العظمة السياسي بدلًا من التخطيط الاستراتيجي المُوثّق؛ ومع ذلك، فهي مهمة لأن التصورات هي التي تُحرّك السياسة.

    في هذا السياق، يبدو أن زعزعة استقرار باكستان أو حتى تفكيكها تندرج ضمن استراتيجية طويلة المدى تهدف إلى تحييد قدراتها النووية، وتهيئة الأرض لعمليات عسكرية محتملة ضد إيران، بحيث يمكن استخدام الأراضي الباكستانية كمنطلق بري لأي تحرك عسكري أمريكي–إسرائيلي في المستقبل.

    يبقى السؤال الجوهري: ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا الصراع المزمن بين الجارتين، خاصة وأن حركة طالبان لطالما اعتُبرت ذات “بصمة باكستانية” في نشأتها ودعمها السياسي والعسكري؟

    Please publish modules in offcanvas position.